في خضمّ استمرار الحرب الإسرائيلية الشرسة على قطاع غزة وما خلّفته من مآسٍ وكوارث غير مسبوقة، لا تزال حركة حماس وفصائل المقاومة تصرّ على خطاب يستند إلى تمجيد عملية السابع من أكتوبر (طوفان الأقصى) بوصفها “أهم عملية جهادية منذ احتلال فلسطين”، دون إبداء أدنى مراجعة حقيقية لحجم الكارثة الإنسانية والدمار الواسع الذي لحق بغزة وسكانها نتيجة لتلك العملية وما تبعها من تداعيات مدمّرة.
ففي بيانها الأخير، ردّت فصائل المقاومة بعنف على تصريحات القيادي الفلسطيني ناصر القدوة، التي انتقد فيها دور بعض الفصائل وموقعها في مستقبل المشهد الفلسطيني، مهاجمة ما اعتبرته محاولات لإقصاء “المقاومة” من ترتيبات “اليوم التالي” في غزة. إلا أن الرد لم يأت كحوار وطني ناضج، بل جاء مليئاً بلغة التحدي والشتيمة السياسية، في إصرار مستمر على تسييد سردية القوة المسلحة كمرجعية وحيدة للمستقبل الفلسطيني، وتجاهل تام لحجم الثمن الذي يدفعه المدنيون على الأرض.
حماس تتباهي بـ7 أكتوبر ولا تفكر في المدنيين
وما يزيد الأمر إيلاماً، أن حماس والفصائل المصطفة خلفها تواصل البناء السياسي والرمزي على لحظة 7 أكتوبر وكأنها لحظة نصر مطلق، وليس الشرارة التي أشعلت حرباً كارثية أودت بحياة عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، وأدخلت غزة في دوامة من المجاعة والتشريد والتدمير الشامل. فالمفارقة الكبرى أن من يفاخرون بقدرتهم على “تحطيم الدبابات” في بيت حانون وخانيونس يتجاهلون عمداً أن هذه المناطق صارت بفعل الحرب أطلالاً، وأن أهلها اليوم إما شهداء أو نازحون أو مفقودون، وأن البنية التحتية والاجتماعية للقطاع تتآكل يومًا بعد يوم.
أما حديث الفصائل عن أن “كل من حمل البندقية” يجب أن يكون داخل المشهد السياسي الفلسطيني، فيؤكد على النزعة العسكرية التي لا تزال تهيمن على فكر حماس وحلفائها، حيث لا مكان للفكر المدني أو السياسي أو التعددي، بل يُشترط للشرعية الوطنية أن تمر عبر البندقية وساحات القتال، لا عبر صناديق الاقتراع أو الحوار المجتمعي أو الكفاءة الإدارية. وهذا الإصرار على “احتكار التمثيل” باسم المقاومة يتناقض جذرياً مع مفهوم الشراكة الوطنية الذي تتغنّى به هذه الفصائل في بياناتها.
أولويات الحركة التنظيمية والسياسية
الواقع أن حماس، عبر تباهيها المستمر بعملية 7 أكتوبر، تحوّلت من فاعل مقاوم إلى جهة أسيرة لحدث واحد ترفض تجاوزه أو تقييمه بموضوعية، ما جعل خطابها السياسي أسير إنجاز معنوي لا يتناسب إطلاقاً مع حجم الخسارة البشرية والمادية التي تكبّدها الشعب الفلسطيني. ولم تكتفِ الحركة برفض مراجعة المسار، بل كانت مواقفها وشروطها المتشددة في أكثر من جولة مفاوضات لوقف إطلاق النار سبباً رئيسياً في تأخر التوصل إلى هدنة، وفق ما أكدته مصادر دولية وإقليمية. فقد وضعت الحركة أولوياتها التنظيمية والسياسية فوق الحاجة الإنسانية الملحّة لأهالي القطاع، وأصرت على ربط أي اتفاق شامل بترتيبات تتعلق بمستقبل غزة وسلطتها، متجاهلة أن سكان القطاع لم يعودوا يحتملون المزيد من الانتظار تحت القصف والمجاعة.
التهديد المتواصل بلغة “المقاومة المسلحة فقط” وإقصاء المختلفين سياسيًا يشكل تهديداً حقيقياً لمستقبل النظام السياسي الفلسطيني برمّته. إذ لا يمكن بناء مستقبل متماسك على أنقاض مدينة محطمة، ولا يمكن لمن تسبب – ولو جزئياً – في انهيار البنية الحياتية في غزة أن يطالب بتمثيل كامل في “اليوم التالي”، دون مراجعة نقدية أو محاسبة سياسية.
اعتراف حقيقي بجسامة المأساة
إن قطاع غزة لم يعد يحتمل هذا النوع من الخطاب العنجهي، الذي يغفل أن الناس هناك يريدون النجاة، يريدون عودة المياه والغذاء والأمان، لا الشعارات والانتصارات الافتراضية. وإن من يصر على تسويق السابع من أكتوبر كمنطلق للتاريخ، دون أن يتوقف عند مئات آلاف القبور والجثث المتحللة تحت الركام، يكون قد قطع صلته الحقيقية بمصالح الناس، واختار التمسك بالأوهام بدل تحمل المسؤولية.
اللحظة الفلسطينية الحالية تتطلب خطاباً عقلانياً ومسؤولاً، يضع الكارثة أمام عينيه، ويقرّ بأن الخطأ لا يُعالج بالتحدي، وأن المقاومة – إن لم تُدار بمسؤولية وضمن رؤية سياسية واضحة – يمكن أن تتحول إلى عبء على مشروع التحرر ذاته. وما لم تراجع حماس وفصائل المقاومة أولوياتها وتستبدل خطاب الانتصار الدائم باعتراف حقيقي بجسامة المأساة، فإن “اليوم التالي” سيبقى بعيدًا، لا لأن الاحتلال يمنعه فحسب، بل لأن أصحاب القرار داخل غزة لم يغادروه بعد.