وسط مأساة إنسانية تتفاقم يومًا بعد آخر، باتت صور الفلسطينيين وهم يصطفون في طوابير طويلة أمام التكايا في مواصي خان يونس تجسيدًا حياً لانهيار مقومات الحياة في قطاع غزة. لم يعد الجوع خطرًا مستقبليًا يُحذَّر منه في تقارير المنظمات الدولية، بل أصبح حقيقة يومية تعصف بعائلات بأكملها، تُصارع من أجل طبق من العدس أو حفنة برغل تُسكت بها صرخات الأطفال. هؤلاء لا يسعون إلى الشبع، بل إلى النجاة من الموت البطيء تحت وطأة الجوع، والحصار، والانهيار الكامل للبنية الغذائية.
سياسة الخنق الممنهج
ما تعيشه غزة الآن ليس فقط أزمة إنسانية، بل هو نموذج مرعب لما يعنيه الحصار كسلاح حرب. ورغم تحذيرات الأمم المتحدة المتكررة من خطر المجاعة، لا تزال إسرائيل تمارس سياسة الخنق الممنهج، من خلال منع أو تقنين دخول المساعدات الغذائية، وتعطيل عمليات التوزيع، واستهداف مراكز الإغاثة والمطابخ المجتمعية. وقد حذّرت مؤسسات أممية، وعلى رأسها برنامج الغذاء العالمي ومكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، من أن نصف مليون فلسطيني في غزة يواجهون خطر المجاعة، وأن المجاعة لم تعد “تلوح في الأفق” بل بدأت فعليًا في مناطق جنوب القطاع.
ومع نزوح مئات الآلاف إلى مناطق المواصي، التي لم تُهيّأ أصلًا لاستيعاب هذا العدد من السكان، تحول المكان إلى كتلة بشرية مكتظة تنهار فيها شروط الحياة الأساسية: الماء، النظافة، والمأوى، فضلًا عن الغذاء. تعجز العائلات عن توفير وجبة واحدة يوميًا، بينما تنتشر أمراض سوء التغذية، ويعاني الأطفال من الهزال ونقص الفيتامينات، في وقت توقفت فيه المدارس والمراكز الصحية عن تقديم الخدمات، إن وجدت أصلًا.
فشل النظام الدولي
لكن المأساة لا تقف عند حدّ نقص الطعام، بل تتجاوزها إلى التدمير الممنهج للبنية الاجتماعية والغذائية. إذ لم تكتف آلة الحرب الإسرائيلية بتدمير المنازل والمنشآت، بل استهدفت الحقول، ومخازن الأغذية، والمخابز، ومراكز الطهي الجماعي. وما بقي من مطابخ خيرية أو “تكايا” تعمل في ظروف شبه مستحيلة، تعتمد على ما يتوفر من فتات مساعدات أو ما يتم جمعه من أهل الخير، الذين أصبحوا أنفسهم بحاجة للمساعدة.
في ظل هذا الواقع، تتحول مشاهد الأطفال وهم يتزاحمون بأوانٍ متهالكة للحصول على القليل من الطعام، إلى مرآة تعكس فشل النظام الدولي في حماية المدنيين، وتوضح حدود تأثير الإدانات والتحذيرات إذا لم تُقترن بإجراءات ملموسة تفرض على إسرائيل إنهاء الحصار والسماح بتدفق المساعدات بشكل آمن وكافٍ. إذ لا يمكن الحديث عن هدنة أو إعادة إعمار أو أي حل سياسي، بينما شعبٌ بأكمله يُقاتل ليبقى على قيد الحياة.
تجويع ممنهج
إن ما يحدث في غزة من تجويع ممنهج يجب أن يُنظر إليه بوصفه جريمة لا تقل عن القتل بالقصف، بل تتجاوزه من حيث المدى والتأثير طويل الأجل. فالجوع لا يُميت فقط، بل يُنهك الأجساد، ويُطفئ الطفولة، ويزرع اليأس في النفوس. وفي غياب تدخل عاجل وفاعل من المجتمع الدولي، فإن غزة تتجه نحو كارثة إنسانية شاملة ستكون وصمة في جبين العالم بأسره.