انطلقت في العاصمة السورية دمشق، جولة جديدة من المباحثات الحساسة جمعت الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد “قوات سوريا الديمقراطية” مظلوم عبدي، بحضور المبعوث الأميركي الخاص توم برّاك، في مشهد يعكس تعقيدات الملف السوري في مرحلة ما بعد “داعش” وما قبل الاستقرار النهائي.
اتفاق سابق.. خلافات لاحقة
يأتي هذا اللقاء بعد أربعة أشهر من توقيع اتفاق مشترك بين الشرع وعبدي، برعاية واشنطن، يقضي بدمج المؤسسات المدنية والعسكرية للإدارة الذاتية الكردية في هيكل الدولة السورية، بما يشمل المعابر، والمطارات، وحقول النفط والغاز، وهو الاتفاق الذي وصف حينها بـ”التاريخي”.
رغم التفاهمات المبدئية، واجه الاتفاق عثرات متتالية، خصوصاً بعد انتقادات وجهتها الإدارة الذاتية للإعلان الدستوري الذي أُعلن في دمشق، واعتبرته لا يعبّر عن التنوع السوري، لتطالب لاحقاً بدولة “ديمقراطية لامركزية”، وهو ما رفضته دمشق بوصفه “محاولة لفرض واقع تقسيمي”.
أربعة ملفات على طاولة البحث
بحسب مصادر كردية مطّلعة، يناقش الاجتماع الحالي أربعة ملفات رئيسية: أولها شكل الدولة السورية القادمة، ثم العلاقة بين دمشق والإدارة الذاتية، إضافة إلى ملفي الاقتصاد والقوة العسكرية، في ظل سعي كل طرف لضمان مصالحه في المرحلة الانتقالية المقبلة.
المطالب الكردية ركّزت على رفض العودة إلى المركزية، وضرورة الاعتراف الكامل بكافة المكونات في إدارة الدولة الجديدة، وهو ما عبّر عنه مظلوم عبدي في تصريحات سابقة، شدد فيها على “الالتزام بالاتفاق، مع ضرورة ضمان مشاركة عادلة للجميع دون إقصاء”.
موقف دمشق: لا لسوريا مقسّمة
الرئاسة السورية من جانبها أكدت أن دمشق متمسكة بوحدة البلاد، وتعتبر أي مشروع يهدف إلى خلق كيان مستقل أو شبه مستقل في شمال شرق سوريا بمثابة “خطر استراتيجي” على مستقبل الدولة، وهو ما عبّر عنه الرئيس الشرع في أكثر من مناسبة.
من أبرز النقاط الشائكة في المفاوضات، مصير “قسد” كقوة مسلحة، إذ رغم إعلان الشرع عن حل كل الفصائل المسلحة، تتمسك القوات الكردية بالاحتفاظ بتنظيمها العسكري، بدعوى استمرار التهديدات الأمنية، وخاصة من خلايا تنظيم “داعش”.
النفط والغاز في قلب التوتر
تسيطر “قسد” على أبرز حقول النفط والغاز في سوريا، وهي موارد تعتبر حيوية بالنسبة لدمشق، خاصة في ظل العقوبات المفروضة على النظام. ويُعتقد أن أحد محاور النقاش يتمحور حول تقاسم العائدات والإدارة المشتركة لتلك الموارد.
مشاركة المبعوث الأميركي توم برّاك في الاجتماع تضفي عليه أهمية دولية، وتكشف عن دعم واشنطن لمطالب “الإدارة الذاتية”، وتحرص في الوقت نفسه على ضمان ألا تنفلت الأوضاع في الشمال الشرقي للبلاد بما يهدد مصالح التحالف الدولي.
إدارة المخيمات.. ملف شائك آخر
إلى جانب الجانب السياسي والعسكري، تتحمل “قسد” مسؤولية إدارة عدد من المخيمات التي تضم عائلات ومقاتلي “داعش”، وهو عبء أمني وإنساني ضخم، تعتبره دمشق ملفًا مشتركًا يحتاج إلى حل منسق في أقرب وقت ممكن.
وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني حذّر في تصريحات سابقة من أن أي تأخير في تنفيذ الاتفاق مع الأكراد سيؤدي إلى “إطالة أمد الفوضى”، في رسالة ضمنية للطرف الكردي بأن الوقت ليس في صالحهم، وأن “الواقعية السياسية” مطلوبة لإنجاح الشراكة.
هل تذيب اللقاءات جليد الشكوك؟
رغم الطابع الرسمي للاجتماعات، لا تزال الشكوك تخيّم على نوايا الطرفين. فالثقة بين دمشق و”قسد” لم تُبنَ بعد، والتجارب السابقة أظهرت أن كثيرًا من التفاهمات تتبدد أمام أول اختبار ميداني، أو تدخل إقليمي.
مصادر مطلعة تحدثت عن دور أميركي فاعل في إدارة المشهد، حيث تحاول واشنطن استخدام نفوذها لضمان دمج الأكراد ضمن الدولة، من دون السماح بسيطرة كاملة لدمشق، في معادلة دقيقة تحمل مخاطر وتوازنات إقليمية متعددة.
هل تقترب سوريا من نموذج “اللامركزية المُراقبة”؟
مع استمرار المحادثات، يرى مراقبون أن سوريا قد تكون مقبلة على نموذج خاص من “اللامركزية المُراقبة”، يُرضي نسبياً الإدارة الذاتية، دون أن يُثير قلق النظام، ويمنح واشنطن ضمانة أمنية في منطقة تعتبرها خط تماس مع الإرهاب والتدخلات الخارجية.