استمرار سقوط الشهداء في غزة يومًا بعد يوم، وعلى نحو متصاعد، يكرّس صورة المأساة الإنسانية العميقة التي يعيشها الفلسطينيون في القطاع، ويثير جملة من الدلالات السياسية والإنسانية التي تتجاوز مجرد الأرقام.
ففي اليوم الذي استشهد فيه 35 فلسطينياً على الأقل، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، يتجدد مشهد النزف الدموي في مناطق مختلفة من غزة. تتوزع الضربات الجوية الإسرائيلية بين دير البلح وخان يونس والبريج والنصيرات، وتمتد حتى مخيم الشاطئ في شمال القطاع، لتؤكد أن الاستهداف لا يقتصر على منطقة دون غيرها، وأن رقعة النار الإسرائيلية تتسع باستمرار، على نحوٍ يعكس عدم وجود حدود واضحة للأهداف العسكرية، أو التمييز بين المدني والعسكري.
استخفاف صارخ بحياة المدنيين
الاستهداف المتكرر للأطفال والنساء يضرب في صميم الأعراف الإنسانية والقانون الدولي، ويُظهر استخفافاً صارخاً بحياة المدنيين. ففي القصف الذي طال منطقة دوار الطيارة في دير البلح، سقط 12 شهيداً، نصفهم من الأطفال، وهو مشهد يتكرر تقريباً في كل هجوم، ليُظهر أن المدنيين أصبحوا الحلقة الأضعف في هذا الصراع، بل ضحايا مباشرين له، لا مجرد “أضرار جانبية” كما تدّعي الرواية الإسرائيلية.
أما استهداف خيام النازحين في منطقة المواصي بغزة، فيكشف عن مستوى أكثر قسوة من الاستهداف، إذ لم يعد النزوح وسيلة حماية، بل صار سببًا إضافيًا للموت. أن تُقصف خيام في منطقة كانت تُعتبر سابقاً “آمنة نسبياً”، فهذا ينزع عن الحرب أي غطاء أخلاقي أو عسكري، ويُحوّلها إلى حرب على الوجود الفلسطيني بكل أشكاله.
مأساة تفوق الحرب
المجازر المتكررة التي تقع خلال توزيع المساعدات، كما حدث في دير البلح وسط القطاع، حيث استشهد 13 شخصاً معظمهم نساء وأطفال، ترسّخ صورة الحرب على الحياة اليومية. الانتظار على طابور الخبز أو المساعدات لم يعد مشهداً إنسانياً بقدر ما هو لحظة تهديد بالموت، تُظهر انهيار شبكة الحماية الدولية، وانعدام فعالية الآليات الإنسانية التي من المفترض أن توفّر الحد الأدنى من الأمان في مناطق النزاع.
تصريحات المتحدث باسم الدفاع المدني عن غارات الأمس، التي خلّفت 22 شهيداً على الأقل بينهم 6 أطفال، وسرد الشاهد زهير جودة عن مشهد “كالزلزال” في مخيم الشاطئ، لا تكتفي بوصف المشهد، بل تعكس عمق الجرح الفلسطيني الذي لم يُشفَ منذ سنوات. فحين يُختزل الحيّ بأكمله إلى كومة ركام، وتتحول أجساد الأطفال إلى أشلاء، نكون أمام مأساة تفوق الحرب بمعناها العسكري إلى مذبحة متواصلة، لا تجد من يوقفها أو يحاسب مرتكبيها.
صمت المجتمع الدولي
الجيش الإسرائيلي من جانبه، يقول إنه “سيحقق” في المعلومات الواردة، وهو موقف اعتادت عليه المؤسسات الإسرائيلية مع كل مجزرة تُرتكب: التبرير ثم الصمت. في المقابل، تبقى النتيجة واحدة: المزيد من القتلى، والمزيد من الحصانة للقاتل.
دلالة استمرار سقوط الشهداء في غزة ليست فقط في أعداد الضحايا، بل في صمت المجتمع الدولي، وتحوّل مأساة القطاع إلى “خبر متكرر” في نشرات الأخبار، بلا تحرك فاعل أو موقف حازم. وفي هذا الصمت، تكمن خطورة التحوّل الأخلاقي العالمي، حيث بات من الممكن التعايش مع مذبحة يومية، وكأنها أمر طبيعي.
ما يجري في غزة اليوم ليس مجرد حرب، بل تجريف يومي للحق في الحياة، وتكريس لمعادلة غير إنسانية: من يولد في غزة، يولد في مرمى النار.