يتكثف الجدل السياسي والإعلامي في باريس حول التحديات الأمنية التي تحيط بالبلاد، في ظل توقعات بزيادة ميزانية وزارة الدفاع، على الرغم من السعي الحكومي لتقليص النفقات العامة بمقدار لا يقل عن أربعين مليار يورو. هذه المفارقة بين متطلبات الأمن وضغوط الترشيد المالي، وجدت تجلّيها الواضح في تصريحات عسكرية نادرة ومباشرة، ألقت الضوء على التهديدات المتعددة التي تواجهها فرنسا وأوروبا في المرحلة المقبلة.
التوقيت لم يكن عشوائيًا. ففيما تنتظر الأوساط السياسية خطاب الرئيس إيمانويل ماكرون المرتقب أمام قيادات الدولة والجيش، عقد رئيس الأركان الفرنسي، الجنرال تييري بوركهارد، مؤتمرًا صحافيًا غير تقليدي في مقر وزارة الدفاع الجديد، خصصه بالكامل لرسم صورة بانورامية للتهديدات التي تتربص بالجمهورية من الداخل والخارج، على وقع تحولات عالمية متسارعة وتغيرات في طبيعة الصراعات.
ولأن ظهوره العلني أمر نادر، بدا أن المؤتمر يعكس تحركًا منسقًا ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى تهيئة الرأي العام لتغييرات مرتقبة في العقيدة الأمنية والإنفاق العسكري. ماكرون نفسه حرص على الترويج للمؤتمر، في خطوة غير مألوفة، وأشار إلى أن خطابه المقبل سيكشف عن ملامح رؤية إستراتيجية “محدّثة” للسياسة الدفاعية الفرنسية، تنطلق من إعادة تقييم مصادر التهديد وأولويات المواجهة.
الجنرال بوركهارد استعرض على مدى ساعة كاملة طيفًا واسعًا من المخاطر، بدأها بالتهديدات الكلاسيكية من إرهاب داخلي ومتسلل، وانتقالًا إلى الجريمة المنظمة، وتفشي تهريب المخدرات، والهجرات غير الشرعية. لكن هذه التحديات، كما وصفها، ليست إلا مقدمات لمشهد أخطر وأكثر تعقيدًا، يتصدره ثلاثي التهديدات الجيوسياسية: إيران، الصين، وروسيا.
وفق تصور القيادة العسكرية الفرنسية، لم يعد النظام الدولي ما بعد 1945 صالحًا للبقاء بصيغته التقليدية. فهناك من يسعى صراحة إلى هدمه وإعادة تشكيله وفق منطق القوة. أول المؤشرات على ذلك، كما وصفها بوركهارد، هو الاستخدام المفتوح وغير الرادع للقوة المسلحة من قبل بعض الدول. وثانيها السعي الممنهج لتفكيك النظام الدولي واستبداله بآخر يقوده تحالف تقوده روسيا. أما ثالث المؤشرات، فيكمن في تصاعد حروب المعلومات، حيث باتت المعارك تدور في ميدان الإدراك الجماعي والوعي المجتمعي، وليس فقط على الأرض. أما العامل الرابع فهو المناخ، حيث يُنظر إلى التغيرات المناخية كعامل اضطراب مستقبلي قد يفتح الباب أمام موجات عنف ونزاعات عابرة للحدود.
في هذا السياق، تبرز إيران بوصفها تهديدًا مباشرًا، ليس فقط عبر سلوكها في الشرق الأوسط، بل عبر سياسات يُنظر إليها في باريس على أنها عدوانية تجاه الدول الغربية. وصف بوركهارد طهران بأنها تمارس “إرهاب الدولة”، وأنها تستخدم الرهائن الغربيين كورقة مساومة سياسية، في إشارة إلى احتجاز عدد من الفرنسيين. كما حمّلها المسؤولية عن زعزعة استقرار الإقليم من خلال “وكلائها” في المنطقة، مثل “حماس”، و”حزب الله”، و”الحوثيين”. تحذيرات الجنرال لم تتوقف عند ذلك، بل أشار إلى أن إيران تُبدي نية جادة في إعادة إحياء برنامجها النووي العسكري خارج إطار الرقابة الدولية، ما يمثل تهديدًا مزدوجًا للأمن الإقليمي والدولي على حدّ سواء.
أما الصين، فهي تحضر في الخطاب العسكري الفرنسي كلاعب يسعى إلى بسط نفوذه الاقتصادي والعسكري في الفضاء الأوروبي من بوابات متعددة. لا تُقدّم باريس بكين كخصم صريح، لكنها تتعامل معها كقوة دولية تحاول فرض توازنات جديدة، في ظل حرب غير معلنة مع الولايات المتحدة تشمل النفوذ، والمعلومات، والتكنولوجيا.
روسيا، بدورها، لا تغيب عن الرؤية الفرنسية بوصفها مصدر تهديد مستمر منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. فالكرملين، من منظور باريس، لم يكتف بمحاولة فرض واقع جديد في الجوار الأوروبي، بل يراهن أيضًا على شرخ التماسك داخل الاتحاد الأوروبي، ويستثمر في حملات التضليل والتأثير الإعلامي.
الرسائل التي حملها مؤتمر الجنرال بوركهارد، وذاك الخطاب المنتظر لماكرون، تشير إلى تحول نوعي في العقل الأمني الفرنسي، وتدلّ على أن باريس لم تعد تقرأ الأمن القومي فقط من زاوية محلية أو أوروبية، بل من منظور عالمي يتطلب استعدادًا ماليًا وميدانيًا جديدًا، في ظل عالم يفقد توازنه التقليدي ويدخل مرحلة جديدة من التنافس والصدامات الرمادية.