لم تعد الدوافع الحقيقية لاستمرار الحرب الإسرائيلية في غزة سرًا، إذ بات جليًا أن المعركة، التي لطالما روّج لها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على أنها “الأكثر عدالة في تاريخ إسرائيل”، تحوّلت عمليًا إلى أداة سياسية لحماية ائتلافه اليميني المتطرف، أكثر منها حربًا لتحقيق أهداف عسكرية واضحة أو لحماية الأمن القومي.
بعد مضي أكثر من عشرة أشهر على عملية عسكرية بدأت بزخم، وتمكنت من شلّ قدرات “حماس” وتحويلها إلى ميليشيا منكوبة، لم يجد نتنياهو لحظة سياسية أو عسكرية أنسب لإعلان النصر من اغتيال قائد الحركة في غزة، يحيى السنوار. إلا أن تلك اللحظة لم تُلتقط، لا لاعتبارات عسكرية، بل بفعل الضغوط السياسية من شركائه في الائتلاف الذين يرهنون بقاء الحكومة باستمرار الحرب، حتى وإن فقدت مبرراتها.
الإصرار على استمرار “الجهد العسكري” تحوّل إلى غطاء لانعدام الرؤية السياسية، ولا سيما مع تبني نتنياهو لشعار “لا حماس ولا عباس في غزة”، الذي يرفض مناقشة أي ترتيبات لما بعد الحرب. هذا الرفض حال دون صياغة استراتيجية خروج، وترك إسرائيل عالقة في ساحة تتكبد فيها خسائر بشرية مستمرة، وتتحمل عبء إدارة كارثة إنسانية، دون أفق واضح.
الجنود يسقطون، المدنيون الفلسطينيون يُقتلون، ونحن – كما يعبّر الكاتب الإسرائيلي يوسي بيلين – “نُطعم الغزيين الجوعى ونقصفهم في الوقت نفسه”، في محاولة مستحيلة لمنع تفجر الفوضى الإنسانية، مع غياب أي بديل سياسي مقبول.
المنطق يفرض اليوم أن تكون أولوية إسرائيل هي إنهاء الحرب وسحب الجيش بشكل كامل من القطاع، لأسباب متعددة تبدأ بتحرير الأسرى الإسرائيليين، وتمر بإعادة إدخال السلطة الفلسطينية إلى غزة كجهة معترف بها دوليًا قادرة على إدارة عملية الإعمار، وتنتهي عند مصلحة أمنية واضحة: لا يمكن لإسرائيل أن تبقى في هذا المستنقع إلى أجل غير مسمى.
لقد أخطأت تل أبيب، كما يقول بيلين، حين ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر في تعزيز سلطة “حماس” داخل غزة، وكرّست سياسة فك الارتباط على قاعدة أمنية بحتة منذ عهد أرييل شارون. والآن، بعد الكارثة، لا بد من الاعتراف بهذا الخطأ وتصحيحه بإعادة القطاع إلى كنف السلطة الفلسطينية، التي قد تكون ضعيفة، لكنها تبقى الطرف الوحيد المقبول دوليًا والمستعد للعب هذا الدور.
الرئيس محمود عباس، رغم تقدمه في السن وتراجع شعبيته، أعلن استعداده لتحمّل مسؤولية القطاع، وتلقّى إشارات دعم من قوى دولية وإقليمية مستعدة لمساندته سياسيًا وماليًا. التجربة اللبنانية تُمثل نموذجًا يُحتذى رغم هشاشته. ففي بيروت، يحاول رئيس الدولة الحالي جوزيف عون، وهو قائد الجيش السابق، تنفيذ بنود اتفاق الطائف، ومنع أي ميليشيا خارجة عن سيطرة الجيش من العمل على الأرض، بما في ذلك “حزب الله”، الذي بدأت مؤشرات تحجيمه تظهر في مداولات السياسة اللبنانية.
لبنان، برغم ضعفه، يمثل “عنوانًا يمكن الحديث معه” على حد تعبير بيلين، وهو ما تفتقر إليه غزة اليوم. فوجود عنوان سياسي واضح في القطاع، حتى إن كان هشًا، يتيح لإسرائيل فرصة الخروج الآمن والمنظم. فالبديل هو البقاء في مستنقع دموي وسياسي لا نهاية له.
الرهان الآن يجب أن يكون على دعم دخول فوري للسلطة الفلسطينية إلى غزة، والسماح بتشكيل بنية حكم مدنية تمكّن من إدارة الحياة اليومية، وتخفيف حدة الكارثة الإنسانية، ووضع حدٍّ لمعاناة الغزيين، ومعهم الجنود الإسرائيليين الذين وجدوا أنفسهم في ساحة فقدت بوصلتها.