بينما تستمر المأساة الإنسانية في قطاع غزة في التصاعد، يزداد الجدل الدولي حول الدور المثير للجدل لمؤسسة “غزة الإنسانية”، وهي هيئة أنشأتها الولايات المتحدة وإسرائيل لإيصال المساعدات إلى المدنيين في القطاع خارج إطار الأمم المتحدة، وسط انتقادات متزايدة حول نتائجها وآثارها الميدانية. في آخر تصريحاته، أكد نائب المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، كار سكاو، الذي زار غزة وإسرائيل الأسبوع الماضي، أن مؤسسة “غزة الإنسانية” لم تكن موضع نقاش خلال اجتماعاته مع المسؤولين الإسرائيليين، وأن “السلطات ترغب في أن تبقى الأمم المتحدة الفاعل الرئيسي في توزيع المساعدات، خاصة في حال التوصل إلى وقف لإطلاق النار”.
الموقف العلني لإسرائيل وواشنطن كان على النقيض من ذلك، حيث شجعتا على استخدام المؤسسة الجديدة كبديل “أكثر أمانًا وفعالية” من منظومة الأمم المتحدة، متهمتين الأخيرة بالعجز عن ضبط مساعداتها ومنعها من الوقوع في أيدي “حماس”. غير أن الأمم المتحدة رفضت الانخراط في هذه الآلية الجديدة، ووصفت نموذجها بأنه يفتقر إلى الحياد، ويؤدي إلى عسكرة المساعدات، فضلاً عن إجبار السكان على النزوح قسريًا إلى مواقع التوزيع، التي باتت تُعرف شعبياً في غزة باسم “مصائد الموت”.
مخاوف الأمم المتحدة لم تعد نظرية. ففي تقرير جديد صدر عن مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان الجمعة، تم توثيق مقتل 798 مدنيًا فلسطينيًا خلال الفترة الممتدة من 27 مايو إلى 7 يوليو، بينهم 615 في محيط مواقع مؤسسة غزة الإنسانية، و183 آخرون قُتلوا على الأرجح أثناء توجههم إلى قوافل الإغاثة. المتحدثة باسم المفوضية، رافينا شمداساني، وصفت هذه الأرقام بأنها “مروّعة”، مؤكدة أن “الناس يُخيرون بين المجاعة والرصاص”.
مؤسسة غزة الإنسانية، التي تموّلها وزارة الخارجية الأميركية وتعمل من خلال شركات أمن خاصة وخدمات لوجستية أميركية، أطلقت عملياتها بعد أكثر من شهرين من الحصار الكامل الذي فرضته إسرائيل على دخول المساعدات إلى القطاع، والذي رُفع جزئيًا في 19 مايو. ومنذ بدء نشاطها، أعلنت المؤسسة أنها وزعت أكثر من 70 مليون وجبة، ونفت بشكل قاطع مسؤوليتها عن أي من الوفيات المرتبطة بمراكزها، مؤكدة أن الأوضاع الأمنية خارجة عن إرادتها.
لكن الوقائع الميدانية، وفق تقارير أممية وشهادات شهود عيان، ترسم صورة قاتمة، حيث تحولت مواقع المساعدات إلى ساحات انتظار مزدحمة تنتهي في الغالب بمآسٍ دامية نتيجة إطلاق النار من القوات الإسرائيلية، كما حدث الجمعة حين أُعلن عن مقتل 45 شخصًا في غارات وعمليات إطلاق نار، بينهم عشرة كانوا ينتظرون مساعدات شمال غرب رفح.
جهاز الدفاع المدني في غزة أكد بدوره أن إطلاق النار على المنتظرين بات سلوكًا متكررًا، مشيرًا إلى أن الضحايا في الغالب يسقطون دون سابق إنذار أثناء اقترابهم من مراكز التوزيع. مدير الإمداد الطبي في الجهاز، محمد المغير، وصف ما حدث الجمعة بأنه “مجزرة أمام أبواب المساعدات”.
من جهته، أقر الجيش الإسرائيلي بحجم الكارثة، معلنًا أنه “أصدر تعليمات جديدة لقواته بعد مراجعة الحوادث المتكررة” في محيط مراكز الإغاثة، دون توضيح طبيعة هذه التعليمات أو تقديم التزامات بمنع تكرارها. التفسير الرسمي الإسرائيلي تمسك بمبررات “الأمن الميداني”، بينما تؤكد الأمم المتحدة أن معظم الإصابات “حدثت بالرصاص المباشر”، وتعتبرها “غير مبررة”.
المواجهة بين الأمم المتحدة ومؤسسة غزة الإنسانية تكشف أزمة أعمق تتعلق بفكرة “خصخصة الإغاثة” وتحويلها إلى أدوات جيوسياسية. وبينما تروج واشنطن لمؤسستها الجديدة بوصفها “إعادة ابتكار لنموذج المساعدات في مناطق الحرب”، ترى المنظمة الدولية في ذلك مسعى لإضعاف حيادها وتقويض دورها كفاعل دولي يعتمد على القانون الإنساني، لا على موازين القوة.
وفي ظل استمرار تدهور الوضع الإنساني، يبقى سكان غزة بين مطرقة الجوع وسندان الرصاص، في انتظار نموذج إغاثي لا يتحول إلى تهديد إضافي لحياتهم. فبين فوضى مراكز “المؤسسة”، وتراجع التمويل الأممي، وضعف التنسيق الدولي، تتواصل الأزمة دون أفق، بينما العالم يكتفي برصد الأرقام المتصاعدة للضحايا.