مرةً أخرى، يُدفع المدنيون في قطاع غزة إلى واجهة المأساة، ليكونوا هم الخاسر الأكبر في حرب لا تنتهي، وقصف لا يفرّق بين جبهة وخيمة، بين مقاتل وطفل، أو بين هدف عسكري ومنزل آمن. ما كشفته وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا) من تفاصيل موجعة عن مقتل أم وأطفالها الثلاثة في قصف غرب مدينة غزة، واستشهاد أربع نساء وإصابة عشرة آخرين في استهداف منزل قرب مدرسة في حي التفاح، يكشف بجلاء مدى تفاقم المأساة الإنسانية، واتساع رقعة الاستهداف العشوائي أو غير المكترث بالأثمان البشرية.
تسلسل المجازر اليومية أصبح روتينًا مروّعًا في غزة. فليس من المبالغة القول إن كل ساعة تمرّ تحصد أرواحًا بريئة وتترك خلفها مأساة ممتدة لا تُشفى بسهولة. القصف الذي استهدف شقة سكنية في حي الشيخ رضوان أدى إلى مقتل مواطنين، بينما حصدت غارة على منزل غرب النصيرات حياة طفلة وأصابت آخرين. لم تعد هذه الحوادث مجرد أخبار طارئة، بل هي تعبير عن نمط ممنهج يضرب البنية المجتمعية والإنسانية للقطاع في عمقها.
صمت دولي مريب
الضربة التي وجهتها طائرة مسيّرة إسرائيلية إلى خيم نازحين في مخيم المناصرة بدير البلح تمثل نموذجاً فجّاً لتقويض كل ما يُفترض أنه محمي بقواعد القانون الدولي الإنساني. خيمة اللجوء التي كانت منذ عقود ترمز إلى المعاناة الفلسطينية في الشتات، أصبحت اليوم هدفًا مباشرًا، تُستباح بمن فيها، كما حدث حين استُشهد مواطن وزوجته وأطفاله في تلك الضربة.
ما يجري في غزة تجاوز منذ زمن توصيف “الرد العسكري” أو “العمليات الأمنية”. نحن أمام سلسلة متصلة من الجرائم ضد السكان المدنيين، في ظل صمت دولي مريب، وعجز أممي يكاد يكون تواطؤاً. الانتشال المتكرر لجثامين الشهداء من تحت الأنقاض، كما في الشيخ ناصر في خان يونس، لم يعد مهمة طارئة للدفاع المدني، بل مهمة يومية تشبه طقوس الحداد الدائم الذي يعيشه سكان القطاع.
الاعتياد على الموت الجماعي
المخيف في هذا المشهد أن الأرقام باتت تفقد معناها. فالحديث عن استشهاد عائلة بأكملها، أو مجموعة أطفال، أو نازحين، لم يعد يستدعي دهشة أو تحركًا فعّالًا من المجتمع الدولي. الاعتياد على الموت الجماعي، والتطبيع مع صور الأطفال تحت الأنقاض، هو بحد ذاته انحطاط أخلاقي يجب التوقف أمامه.
وفي خضم هذه الكارثة، تغيب المحاسبة، وتغيب العدالة، بل ويغيب حتى الحد الأدنى من الالتزام بالمعايير الإنسانية في إدارة الحروب. أينما نُظر إلى خارطة قطاع غزة اليوم، هناك مأساة تتكرر. مأساة من بقي على قيد الحياة، لا من مات فقط. فالناجون أنفسهم يعيشون ظروفاً بالغة القسوة: لا ماء، لا كهرباء، لا مستشفيات قادرة، لا طعام كافياً، ولا أدنى حماية من قصف قد يأتي في أي لحظة، حتى وهم نيام أو داخل مدرسة أو مخيم نزوح.
الاكتفاء بالإدانة اللفظية
هذه الأوضاع لم تعد فقط قضية فلسطينية، بل اختبار عالمي لكل ما تبقى من معايير القانون الدولي وحقوق الإنسان. كيف يمكن أن تستمر آلة الحرب في سحق الأطفال والنساء والأُسر الكاملة دون أن تُواجه بردع حقيقي؟ إلى متى سيبقى الخطاب الأممي يدور في فلك الإدانة اللفظية والمناشدات العقيمة، بينما تتعمق المأساة يوماً بعد يوم؟
إن استهداف المدنيين في غزة بشكل مباشر أو غير مباشر ليس فقط جريمة إنسانية، بل هو فعل من أفعال المحو الجماعي لمجتمع كامل، تُطمس ذاكرته وتُهدم بنيته وتحطّم أجياله المقبلة. وإذا لم يتغير المسار سريعاً – بوقف فوري للعدوان، وضمانات حقيقية لحماية المدنيين، وفتح ممرات إنسانية آمنة – فإن ما يحدث في غزة سيُسجَّل في التاريخ لا فقط كحرب مدمرة، بل كعار على جبين الإنسانية بأكملها.