في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي، تتزايد الأسئلة الجوهرية حول حدود الاعتماد على الأدوات الذكية في اتخاذ قرارات شخصية مصيرية. لم تعد تطبيقات الذكاء الاصطناعي محصورة في الدعم التقني أو تقديم المعلومات، بل بات كثيرون يلجؤون إلى منصات مثل “شات جي بي تي” لاتخاذ قرارات تتعلق بمصيرهم المهني أو علاقاتهم العاطفية. لكن، هل يمكن فعلاً لأداة خوارزمية أن تحسم مصيرك؟
ما بين إغراء الكفاءة، وسرعة الردود، وتضخم التوقعات، يطرح السؤال نفسه: ما الذي يمكن – أو لا يمكن – أن يفعله الذكاء الاصطناعي في المسائل الشخصية العميقة؟
بين المنطق الحسابي والمشاعر الإنسانية
في الأصل، بُني “شات جي بي تي” على نموذج لغوي ضخم يستند إلى تحليل مليارات الكلمات والنصوص، ما يمنحه قدرة هائلة على فهم السياق، توليد اقتراحات، ومحاكاة المشاعر. هذه القدرات دفعت الكثيرين إلى استشارته في قضايا من قبيل:
هل أستقيل من عملي؟
هل أستمر في علاقتي مع هذا الشخص؟
ما هي الخطوة القادمة في مسيرتي؟
وبينما قد تكون الإجابات دقيقة في تحليل الخيارات الظاهرة، فإن النموذج يظل خاليًا من الوعي أو التجربة البشرية الفعلية، ولا يملك القيم أو البوصلة العاطفية التي تحكم العلاقات أو الدوافع الشخصية. بكلمات أوضح، “شات جي بي تي” لا يعرفك، بل يعرف الأنماط.
الذكاء الاصطناعي كمرآة.. لا كقاضٍ
كثير من القرارات المهنية أو العاطفية تتطلب استبطانًا عميقًا، مواجهة الذات، والتعامل مع التناقضات. الذكاء الاصطناعي، في أفضل حالاته، يمكن أن يعمل كمحفّز للتفكير، أو كمرآة فكرية تعرض لك الخيارات بزوايا مختلفة، دون أن يقرر نيابةً عنك.
وفي هذا السياق، يشبه “شات جي بي تي” مستشارًا حياديًا: قد يصيغ السيناريوهات، يستعرض الإيجابيات والسلبيات، وحتى يساعدك على كتابة خطاب استقالة أو رسالة اعتذار. لكنه لن يتحمل العواقب، ولن يعرف إن كنت نادمًا أو مرتاحًا بعد اتخاذ القرار.
حالات واقعية: من المساعدة إلى التبعية
رصدت تقارير إعلامية واعترافات منشورة على منصات مثل Reddit وX، حالات لأشخاص اعترفوا بأنهم قرروا إنهاء علاقاتهم العاطفية بعد حوار طويل مع الذكاء الاصطناعي. البعض شعر بالارتياح لوجود “صوت عقلاني” يُبعده عن دوامة المشاعر، وآخرون أقروا لاحقًا بأنهم تسرّعوا وافتقروا إلى التقييم الذاتي الحقيقي.
وفي المجال المهني، يستخدم البعض الذكاء الاصطناعي لتحليل سيرهم الذاتية، التفاوض على الرواتب، وحتى اختيار المسارات التعليمية. ورغم أن هذه الاستخدامات مشروعة ومفيدة، إلا أن التخلي الكامل عن البعد الإنساني في القرار يُعد مخاطرة.
ما الذي يمكن أن يفعله شات جي بي تي… وما الذي لا يجب أن نطلبه منه؟
يمكنه أن:
-
يساعدك على ترتيب أفكارك.
-
يقترح سيناريوهات وفق معطيات منطقية.
-
يصوغ لك رسائل مهنية أو عاطفية.
-
يسلط الضوء على خيارات لم تكن تضعها في الحسبان.
لكنه لا يستطيع:
-
أن يشعر بآثار القرار عليك.
-
أن يقرأ تعقيداتك النفسية أو طباع شريكك أو دوافعك الخفية.
-
أن يضمن نتائج القرار أو يتشارك مسؤوليته معك.
نحو استخدام مسؤول: شريك مساعد لا بديل عن الذات
في عالم يتسارع فيه الذكاء الاصطناعي نحو أدوار أكثر حساسية، تبقى المسؤولية الأساسية على عاتق الإنسان: لا في تجاهل هذه الأدوات، ولا في الإذعان الكامل لها، بل في توظيفها بوعي. فالمستقبل المهني والعاطفي لا يُبنى فقط على التحليل المنطقي، بل على قيم وتجارب وظروف لا يمكن نمذجتها بالكامل.
“شات جي بي تي” أداة قوية، لكنه ليس نبيًا ولا معالجًا نفسيًا، ولا صديقًا يعرفك منذ الطفولة. هو ببساطة عقل اصطناعي يقرأ ما تقول، ويعيد صياغته بلغة منطقية. أما قرارك فيبقى قرارك، بمزيجك الخاص من العقل، القلب، والتجربة.