يشير التحرك الأوروبي الأخير تجاه إسرائيل إلى تحوّل ملحوظ – وإن كان بطيئًا ومترددًا – في موقف الاتحاد الأوروبي تجاه الحرب الدامية في قطاع غزة، والتي تواصلت على مدى شهور وخلفت دمارًا غير مسبوق وسقوط عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين، بحسب مصادر أممية. ففي اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، جرى التطرق إلى سلسلة من الإجراءات العقابية المحتملة ضد إسرائيل، بناء على اتهامات بانتهاك اتفاق التعاون بين الطرفين على خلفية حقوق الإنسان. ورغم عدم اتخاذ قرار فعلي، إلا أن إدراج هذه التدابير على جدول البحث يحمل في طياته دلالات سياسية لا يُستهان بها.
قيود تجارية
أول ما يلفت الانتباه هو أن هذا الطرح جاء من داخل المؤسسة الأوروبية نفسها، على لسان مسؤولة السياسة الخارجية الجديدة كايا كالاس، التي عرضت قائمة من عشرة إجراءات بينها تعليق اتفاق التعاون كليًا، وفرض قيود تجارية، وحظر سفر، وعقوبات فردية على مسؤولين إسرائيليين. وهو ما يعكس إدراكًا متزايدًا داخل دوائر الاتحاد الأوروبي بأن الحرب على غزة قد تجاوزت الخطوط الحمراء، وأن استمرار غض الطرف لم يعد ممكنًا، خاصة في ظل تزايد الانتقادات من الرأي العام الأوروبي، ومنظمات حقوق الإنسان، والبرلمانات الوطنية في عدة دول.
غير أن التردد الأوروبي في تبني أي من هذه الخطوات يعكس الانقسام البنيوي داخل الاتحاد بشأن القضية الفلسطينية. فبينما تتبنى بعض الدول – كإيرلندا وإسبانيا وبلجيكا – موقفًا أكثر انتقادًا لإسرائيل، تصطف دول أخرى مثل ألمانيا والمجر إلى جانب تل أبيب، ما يعقّد عملية اتخاذ القرار التي تتطلب إجماعًا أو شبه إجماع في مثل هذه القضايا. وعليه، فإن مجرد طرح الإجراءات للنقاش، دون تبنيها، يمثل – في السياق الأوروبي – خطوة رمزية تمثل تآكلاً بطيئًا في الهامش السياسي الذي كانت تتمتع به إسرائيل تقليديًا داخل أوروبا.
احترام حقوق الإنسان
ويُلاحظ أن هذا التحرك الأوروبي جاء في أعقاب تفاقم الأوضاع الإنسانية في غزة بشكل دفع حتى الجهات المؤيدة تقليديًا لإسرائيل إلى مراجعة حساباتها. فتصريحات كالاس نفسها حملت إقرارًا بأن ما تم الاتفاق عليه مع الجانب الإسرائيلي لتحسين تدفق المساعدات لا يزال غير كافٍ، وأن هناك حاجة لمزيد من “الجهود الجادة” لتطبيق تلك التفاهمات ميدانيًا، في ظل وجود إشارات “جزئية فقط” إلى تحسن في دخول الشاحنات الإنسانية.
التحذير الأوروبي يتزامن أيضًا مع تصاعد التوتر داخل المؤسسات الأوروبية حول مدى التزام إسرائيل ببنود الاتفاقيات الثنائية، خاصة تلك التي تشترط احترام حقوق الإنسان كأساس للتعاون. ومن هنا تبرز أهمية الجدل الراهن، فهو يتجاوز مسألة العقوبات المباشرة إلى مسألة أعمق تتعلق بشرعية استمرار العلاقات الاقتصادية والسياسية مع حكومة متهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، وهو ما عبّر عنه بعض المسؤولين الأوروبيين باعتباره “اختبارًا لمصداقية الاتحاد الأوروبي في الدفاع عن القيم التي يدّعي تمثيلها”.
رغم ذلك، فإن ثقة وزير الخارجية الإسرائيلي في عدم اتخاذ أي خطوات ضده تعكس واقعية سياسية تستند إلى خبرة طويلة في التعامل مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي، التي نادرًا ما تُجمع على إجراءات صارمة، خاصة في ملفات متفجرة كالملف الفلسطيني-الإسرائيلي. ويبدو أن الحكومة الإسرائيلية تراهن على استمرار الانقسام الأوروبي، وعلى اعتبار علاقاتها مع الاتحاد أداة ضغط استراتيجية، سواء في مجال التبادل التجاري أو الأمن أو التكنولوجيا.
آليات المحاسبة
- لكن، وعلى الرغم من الجمود الظاهري، فإن ما يجري يفتح الباب لتطورات لاحقة قد تحمل تغيرًا تدريجيًا في مواقف بعض العواصم الأوروبية. فالتغير في الخطاب، وإدراج العقوبات كخيار قابل للنقاش، يمثلان ضغطًا معنويًا على إسرائيل، ويمنحان الفلسطينيين نوعًا من الغطاء الدبلوماسي الذي افتقدوه طويلاً. كما أن هذا التحول قد يشكل مقدمة لتصعيد أوروبي أكثر وضوحًا إذا استمرت الحرب، وازدادت الضغوط الشعبية داخل الدول الأوروبية.
إن دلالة هذا الحراك لا تكمن في نتائجه المباشرة، وإنما في مساره السياسي: فمجرد الاعتراف بأن إسرائيل خرقت التزاماتها الحقوقية في إطار الاتفاقات الأوروبية يمثّل تحولاً في الخطاب السياسي، وربما في آليات المحاسبة لاحقًا. وهو ما قد يشكّل عنصرًا مهمًا في معادلة ما بعد الحرب، حيث سيُعاد النظر في التزامات الطرفين ومشروعية استمرار العلاقات على قاعدة الشروط الحقوقية والدولية.