تواجه حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واحدة من أخطر الأزمات السياسية في ولايته الحالية، بعد انسحاب حزب “يهدوت هتوراه” من الائتلاف الحاكم، على خلفية مشروع قانون التجنيد العسكري، الذي فجر صراعاً متجدداً بين الأجندات الدينية والعسكرية في الدولة العبرية. وفي حين لا تعني هذه الخطوة انهيارًا فوريًا للحكومة، فإنها بلا شك تؤسس لحالة سياسية شديدة الهشاشة، تجعل حكومة نتنياهو مهددة بالسقوط في أي لحظة، وتفتح الباب أمام سيناريوهات انتخابية محتملة في الأشهر المقبلة.
حزب “يهدوت هتوراه”، الممثل لليهود الحريديم، كان جزءاً لا يتجزأ من ائتلاف نتنياهو، إذ يؤمن له ستة مقاعد حرجة ضمن تحالف يميني ديني لا يحوز أكثر من 61 مقعدًا في الكنيست المؤلف من 120. بانسحاب الحزب، تتقلص الغالبية إلى مقعد واحد فقط، وهو ما يحوّل الحكومة من ائتلاف قوي إلى كيان متأرجح، تُهدده الانقسامات الداخلية في كل تصويت برلماني، وتجعله غير قادر فعلياً على تمرير سياسات أو ضمان استقرار تشريعي.
أزمة التجنيد الإجباري
المفارقة أن الأزمة جاءت نتيجة مشروع قانون كان نتنياهو نفسه قد سعى إلى تمريره لسنوات، ويتعلق بتوسيع نطاق التجنيد الإجباري ليشمل أبناء التيارات الدينية المتشددة، وهو مطلب قديم للمؤسسة العسكرية والعلمانية، لطالما قاومته الأحزاب الدينية. والآن، وفي وقت تعاني فيه إسرائيل من أعباء حرب ممتدة على جبهات متعددة، وخصوصاً في غزة، يخرج الصراع التقليدي بين الجيش والحريديم إلى العلن، مهددًا بتمزيق التحالفات التي أوصلت نتنياهو إلى السلطة.
لكن الانقسام لا يقف عند حدود التجنيد. بل يعكس تصدعاً أعمق داخل بنية الحكم الإسرائيلية، حيث التناقضات الأيديولوجية في حكومة تجمع بين قوميين متطرفين، ويهود حريديم، وأحزاب يمينية تقليدية، بدأت تفرز نتائجها. وهذا يضع نتنياهو أمام تحدٍ غير مسبوق: الحفاظ على توازن ائتلاف يفتقد للحد الأدنى من الانسجام، فيما يحاول إدارة حرب في غزة وسط ضغط داخلي وخارجي هائل.
تصاعد القلق في إسرائيل
ورغم انسحاب “يهدوت هتوراه”، لا تزال هناك مهلة زمنية قبل أن يصبح الانفصال رسميًا، مما يمنح نتنياهو فرصة محدودة لمحاولة احتواء الأزمة أو التوصل إلى تسويات داخلية. غير أن الخطر الحقيقي يكمن في احتمال انسحاب حزب “شاس”، الحليف التقليدي لـ”يهدوت هتوراه”، والذي يمتلك 11 مقعدًا، ما يعني أن نتنياهو سيخسر الغالبية فعليًا، وتدخل حكومته مرحلة السقوط الحتمي، سواء بتصويت على حل الكنيست أو بفشل تمرير الميزانية.
وبينما تنشغل الطبقة السياسية في صراع بقاء ائتلافي، فإن آثار هذا الاضطراب تتعدى السياسة الداخلية، لتلقي بظلالها على إدارة الحرب في غزة، حيث يتصاعد القلق العام من استمرارها دون أفق واضح، في ظل غياب استراتيجية خروج معلنة. ومما يزيد الصورة تعقيدًا أن بعض مكونات حكومة نتنياهو، وعلى رأسها حزبا “القوة اليهودية” و”الصهيونية الدينية”، يعارضان بشدة أي وقف نهائي لإطلاق النار، ما يجعل التقدم في مفاوضات الدوحة هشًا ومرتبطًا بتوازنات داخلية متغيرة.
مخاطر بقاء نتنياهو
ففي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة ومصر وقطر إلى دفع عجلة الاتفاق بين إسرائيل وحماس، تبرز حكومة إسرائيل كطرف غير متماسك، ما يضعف موقفها التفاوضي ويزيد من تعقيد التفاهمات الممكنة. وحتى لو بقي نتنياهو في السلطة نظريًا، فإن استمراره الفعلي في الحكم بات مرهونًا بسلسلة من التوازنات الخطرة، إذ يتعين عليه إرضاء المتشددين الدينيين من جهة، والحفاظ على دعم الجيش والجمهور القومي من جهة أخرى، وكل ذلك بينما تتآكل شعبيته في استطلاعات الرأي، وتزداد الدعوات لانتخابات مبكرة.
تاريخيًا، نادراً ما تكمل الحكومات الإسرائيلية ولايتها الدستورية، لكن ما تشهده حكومة نتنياهو الآن ليس مجرد أزمة تقليدية، بل ارتطام كامل بين تركيبتها الأيديولوجية والواقع السياسي والعسكري الملتهب. وإذا لم يتمكن نتنياهو من إعادة بناء ائتلافه أو تجنيد دعم بديل، فستتحول هذه الحكومة من سلطة تنفيذية إلى مجرد مرحلة انتقالية على طريق انتخابات جديدة، قد تغير المشهد السياسي الإسرائيلي جذريًا، وتضع حداً لمسيرة سياسية طويلة لطالما اتسمت بالمناورة والنجاة في اللحظة الأخيرة.