أثارت تصريحات رئيس البرلمان العراقي، محمود المشهداني، حول مفهوم “هوية العراق”، عاصفة سياسية داخل الأوساط النيابية والحزبية، أدّت إلى تأجيل جلسة تشريعية كانت مقررة، الاثنين، وسط مشادات كلامية وتراشق بالاتهامات بينه وبين نائبه الأول محسن المندلاوي.
المشهداني وصف ربط هوية العراق بعضويته المؤسسة في الجامعة العربية -كما ورد في الدستور- بأنه “سخيف”، معتبراً أن هوية الدولة تمتد لآلاف السنين ولا تُختصر في مؤسسة عمرها بضعة عقود، وهو ما فُسِّر من قبل خصومه على أنه إساءة للهوية القومية والدستور، لتشتعل أزمة سياسية جديدة في بغداد.
دعم سني واسع لرئيس البرلمان.. والسوداني يتدخل لاحتواء الأزمة
رغم الجدل المثار، لم يتراجع المشهداني عن تصريحاته، بل نشر في اليوم التالي تغريدة على منصة “إكس”، قال فيها: “في لحظة اختبار حقيقي، الكتل السنية تلتف حول رئاستها”، في إشارة إلى تكتل قادة ونواب سنّة داخل مقر البرلمان دعماً له.
المفارقة أن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ورغم أن كتلته “الإعمار والتنمية” ليست من البيت السني، أبدى دعماً للمشهداني، حيث دخل نواب كتلته في اجتماع مغلق مع هيئة رئاسة البرلمان لـ”الوقوف على ملابسات ما حدث”، بحسب ما أعلنه المتحدث فراس المسلماوي.
هذا الدعم السياسي أضفى بعداً جديداً على الأزمة، فبدلاً من أن تتحول إلى استقطاب طائفي، بدا أن ثمة قوى داخل البرلمان تسعى لتطويق الخلاف ومنع تفجّره على نطاق أوسع.
مشادة كلامية ومكالمة حادة.. بداية الانفجار
بحسب مصادر برلمانية، فإن الأزمة لم تبدأ داخل القاعة، بل خلال مكالمة هاتفية بين المندلاوي والمشهداني، اتهم فيها الأول رئيس البرلمان بأنه “أهان العراق”، ليرد المشهداني بأن العراق “أكبر من الجامعة العربية”، مشدداً على أن “الدولة عمرها 7 آلاف عام”.
لم يكتفِ المندلاوي بالمكالمة، بل ذهب إلى مكتب المشهداني لاستكمال الخلاف وجهاً لوجه، ما دفع الأخير إلى رفع الجلسة وإعلان عدم عقدها، مؤكداً تمسكه بموقفه.
«الهوية» أم الصلاحيات؟.. خلاف سياسي في ثوب دستوري
يرى كثير من المحللين أن القضية أبعد من مجرد تصريح حول “هوية العراق”، بل تتعلق بتوازنات القوى داخل رئاسة البرلمان، خاصة بعد الإطاحة برئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي بقرار من المحكمة الاتحادية.
وفي هذا السياق، قال الباحث السياسي يحيى الكبيسي، إن “التمثيل السني في الدولة هو مجرد ملء فراغ، حيث يتحكم الفاعل السياسي الشيعي في حركتهم”، مضيفاً أن قرار إقصاء الحلبوسي كان سياسياً بحتاً لا يستند إلى حجج دستورية، بل هدفه “إعادة تشكيل رأس الهرم السني في الدولة”.
أزمة تتجاوز البرلمان.. وتطرح سؤالاً: من يتحكم بالعملية التشريعية؟
الباحث سيف السعدي اعتبر أن ما يجري داخل البرلمان يعكس انحرافاً عن المسار التشريعي المنصوص عليه دستورياً، مشيراً إلى أن الكتل السياسية هي من توجه النواب، وليس العكس، وبالتالي فإن تعطيل الجلسات وتمرير التشريعات أصبح رهينة صراعات الزعامات لا إرادة الناخبين.
وأضاف السعدي أن البرلمان في دورته الحالية فقد الكثير من أدوات الرقابة على السلطة التنفيذية، وفشل في أداء دوره المؤسسي، ما جعل الأزمات تتكرر دون حلول حقيقية.
المشهداني يلوّح بـ”حكومة طوارئ”.. وتحذيرات من اضطرابات
خلال تصريحاته التلفزيونية المثيرة، لم يكتفِ المشهداني بإثارة ملف الهوية، بل تحدث عن تظاهرات محتملة الشهر المقبل، وقال إن “العراق قد يتجه إلى حكومة طوارئ في حال تصاعد التوتر الأمني”، كاشفاً في الوقت نفسه عن رسائل أميركية وصلت إلى قيادات سياسية حول مستقبل “الحشد الشعبي”، وتحديداً حول مقترح دمجه في القوات الأمنية.
هذا التلميح الخطير فتح باب التأويلات حول نوايا سياسية قد تُترجم إلى خطوات عملية خلال الأسابيع المقبلة، خاصة مع قرب انتهاء الدورة البرلمانية الخامسة ودخول البلاد في مرحلة سياسية أكثر تعقيداً.
خبراء: الأزمة مفتعلة لتأجيل التشريعات.. والمواطن هو الخاسر الأكبر
وسط هذه الأجواء المشحونة، يرى مراقبون أن ما جرى لا يعدو كونه فصلاً من فصول الصراع على السلطة، وأن بعض القوى “تفتعل الأزمات” لتعطيل تمرير قوانين استراتيجية تتعلق بالموازنة، والانتخابات، وقانون النفط والغاز، وغيرها من الملفات العالقة.
وفي النهاية، يبقى المواطن العراقي هو المتضرر الأول من أزمة تتكرر تحت عناوين مختلفة، لكنها تصب في خانة واحدة: غياب التوافق وتعطيل الدولة.