تُعدّ التقارير الإسرائيلية حول العمليات العسكرية في قطاع غزة، مثل ما نُشر عن انتهاء «لواء القدس» من تدمير أكثر من 600 موقع تابع لحركة حماس، جزءًا من حملة إعلامية وسياسية مركّبة تهدف إلى تحقيق عدة أهداف، تتجاوز المعطيات الميدانية البحتة. في هذا السياق، يظهر استخدام الأرقام الكبيرة—مثل عدد المواقع المدمّرة أو الأنفاق المكتشفة—كأداة لتضخيم الإنجاز العسكري، وبث صورة انتصار تخدم أهدافًا داخلية وخارجية في آنٍ واحد.
البعد السياسي والإعلامي
إسرائيل تدير معركتين في آنٍ واحد: معركة عسكرية ميدانية في غزة، ومعركة إعلامية-نفسية موازية. لا يمكن قراءة الأرقام التي تصدرها المؤسسة العسكرية، خصوصًا في وسائل الإعلام الإسرائيلية الكبرى مثل «يديعوت أحرونوت»، بمعزل عن الوضع السياسي الداخلي المتأزم الذي يعيشه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. الأخير يواجه ضغوطًا سياسية وشعبية هائلة، بما في ذلك دعوات متصاعدة للاستقالة بعد فشل الاستخبارات في منع هجوم 7 أكتوبر. لذلك، فإن تضخيم الإنجازات العسكرية يُستخدم لتعزيز صورة “القائد القوي” الذي يعيد السيطرة ويحقق “الردع” ولو إعلاميًا.
مصداقية الأرقام
تصريحات الجيش الإسرائيلي حول نتائج العمليات في غزة كثيرًا ما تتّسم بالغموض أو المبالغة، بحسب محللين غربيين وحتى مسؤولين سابقين في الجيش نفسه. الإعلان عن تدمير “أكثر من 600 موقع” خلال شهرين يفتقر إلى التوثيق المستقل، خاصة في ظل تدمير واسع للبنية التحتية المدنية والمنازل السكنية، مما يفتح باب التساؤل: هل كل هذه المواقع فعلاً ذات طابع عسكري؟ وهل يتم تصنيف أي مبنى يُشتبه بأنه استخدمته حماس كموقع عسكري لتبرير القصف؟
كذلك، لا تتوفر معايير شفافة لتحديد ما إذا كان الموقع الذي تم قصفه “مدمّرًا” بالفعل، أو أنه خضع لقصف جزئي أو تعطيل مؤقت، وما إذا كان أعيد استخدامه لاحقًا. وقد لوحظ في مرات سابقة إعادة استهداف نفس المواقع مرارًا، مع احتساب كل استهداف كموقع مختلف، وهو أمر يشكك في دقة الأرقام.
الأنفاق والاستخدام الثانوي للمعلومة
التحدث عن “مئات الأمتار من الطرق تحت الأرض” هو خطاب مألوف في الحملات الإسرائيلية التي تسعى دومًا لإبراز خطر الأنفاق. غير أن غياب التوثيق المصور المحايد، والاعتماد فقط على بيانات الجيش، يجعل هذه الادعاءات خاضعة للتمحيص، خصوصًا في ظل اتهامات سابقة لإسرائيل بالمبالغة في توصيف قدرات العدو لتبرير استمرار العمليات.
كلما طال أمد الحرب دون تحقيق الأهداف الكبرى المعلنة—مثل القضاء على حماس أو استعادة كل الرهائن—يصبح من الضروري للقيادة الإسرائيلية إيجاد سردية “نجاح تدريجي”. وهنا يأتي دور الإعلام والأرقام في تثبيت هذه السردية، بصرف النظر عن حقيقتها الميدانية. هذا لا ينفي وجود عمليات عسكرية فعلية، وتدمير بعض المواقع، لكنه يشكك في حجم الإنجاز المعلن.
تعزيز صورة نتنياهو
الأرقام التي تصدرها إسرائيل حول العمليات في غزة، وخاصة المتعلقة بتدمير البنية التحتية، تحمل طابعًا دعائيًا يهدف إلى تعزيز صورة نتنياهو وحكومته في الداخل، وإقناع العالم الخارجي بأن الحرب تحقق نتائج ملموسة. وفي غياب رقابة مستقلة أو إعلام حر داخل غزة في ظل ظروف الحرب، تبقى هذه الأرقام بحاجة إلى تدقيق، وتُقرأ ضمن سياق سياسي وأمني معقّد أكثر مما تُقرأ كمجرد بيانات عسكرية.