محاولات إنشاء بؤر استعمارية جديدة في الضفة الغربية، كما وثّقتها هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، ليست مجرد تجاوزات فردية أو سلوكًا عشوائيًا من قبل مجموعات المستوطنين، بل هي امتداد واضح لسياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى إعادة رسم الخريطة الجغرافية والديموغرافية للضفة الغربية، وتحويل الاحتلال المؤقت إلى واقع دائم مفروض على الأرض.
تقويض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية
اللافت في هذا التصعيد الأخير هو التوقيت والطابع. فخلال 24 ساعة فقط، تم رصد أربع محاولات لإنشاء بؤر استيطانية جديدة، ثلاث منها في محافظة رام الله والبيرة، والرابعة في مدينة أريحا. هذا التركيز المكثف في منطقة رام الله، قلب السلطة الفلسطينية، ليس عبثيًا، بل يُقرأ كرسالة سياسية مباشرة بأن السيطرة الإسرائيلية لا تعترف بأي حدود سياسية أو تفاهمات. إنها محاولة لاختراق العمق الجغرافي الفلسطيني، وتقويض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية متواصلة جغرافياً.
الطابع الزراعي والرعوي الذي يغلب على هذه البؤر الجديدة يكشف عن أسلوب جديد في التوسع الاستيطاني: زرع مستوطنين “مدنيين” في ظاهرهم، لكنهم يعملون كحلقات متقدمة لحماية المصالح الاستعمارية الإسرائيلية. هذه البؤر تبدأ غالباً كأكواخ أو خيام بسيطة، لكنها تتحول تدريجياً إلى مستعمرات كاملة، تحت حماية الجيش الإسرائيلي، الذي لا يتدخل لمنع إنشائها، بل يوفر لها الحماية، ويقمع كل محاولة فلسطينية للاعتراض.
قطع أوصال المدن والقرى الفلسطينية
محاولة السيطرة على أراضي بلدات مثل دير جرير والمغير وعين عريك، إضافة إلى شلال العوجا في أريحا، تعكس التوجه الإسرائيلي لاختراق المناطق الزراعية والريفية ذات القيمة الاقتصادية، حيث تشكل هذه الأراضي المورد الأساسي للفلسطينيين، ما يجعل الاستيطان فيها أداة مزدوجة: مصادرة الأرض، وتجفيف الموارد الاقتصادية، ودفع الفلسطينيين نحو الهجرة القسرية البطيئة.
تكرار هذا النمط من البؤر العشوائية ثم “تقنينها” لاحقًا عبر الاعتراف بها من قبل الحكومة الإسرائيلية هو ما حوّلها إلى أداة مركزية في مشروع التهويد. لا تُقام هذه البؤر في الفراغ، بل وفق حسابات دقيقة تتعلق بالمياه، والطوبوغرافيا، والطرق، وربط الكتل الاستيطانية ببعضها، وقطع أوصال المدن والقرى الفلسطينية عن بعضها البعض. إنها سياسة “الضم الزاحف” التي تعمل على الأرض بعيدًا عن الضجيج الدبلوماسي.
إضافة إلى البعد الجغرافي، هناك بعد أيديولوجي تقوده الأحزاب الصهيونية الدينية والقومية المتطرفة، والتي ترى في هذه الأرض “حقًا توراتيًا” لا يُناقش، وتدفع بأتباعها إلى النزول الميداني وفرض أمر واقع بالقوة. هذه الجماعات لا تتحرك وحدها، بل في انسجام تام مع مؤسسات الدولة، من جيش وشرطة، بل وتحظى في أحيان كثيرة بدعم مالي مباشر من الوزارات الإسرائيلية.
خطة تهويد شاملة
التوسع الاستيطاني بهذه الوتيرة وبهذا الشكل يُظهر بشكل قاطع أن إسرائيل لا تسعى لأي حل قائم على مبدأ الدولتين، بل تُنفذ خطة تهويد شاملة للضفة الغربية، تنهي أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وتفرض واقعًا “بلا فلسطينيين”، من خلال الطرد الناعم، والسيطرة على الأرض، ومحاصرة القرى الفلسطينية بين مستوطنات متشعبة ومتداخلة.
وفي ظل هذا المشهد، يبقى الصمت الدولي، والضعف الرسمي العربي، عوامل مساعدة تُغري إسرائيل بالاستمرار، وتمنح المستوطنين الضوء الأخضر للتوسع دون خشية من الحساب أو العقاب.