المشهد الدولي الحالي يرسم ملامح مستقبل قاتم لإسرائيل على الساحة العالمية، وهو مستقبل يزداد قتامة كلما طال أمد الحرب على غزة وازدادت مشاهد الدمار والمجازر وضوحًا على شاشات العالم. فما كان يُنظر إليه في السابق كدولة تحظى بدعم غربي غير مشروط بات اليوم موضوع مساءلة متزايدة، ليس فقط من منظمات حقوق الإنسان أو الشارع العالمي، بل من داخل مراكز صنع القرار في العواصم التي كانت تُعتبر أقرب الحلفاء لتل أبيب.
شرعية إسرائيل
تصريحات وتحليلات من قلب المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، كما هو الحال مع الباحث مايكل ميليشتاين، تكشف أن الأزمة لم تعد خارجية فقط، بل داخلية أيضًا، تعكس إدراكًا متناميًا بأن إسرائيل لم تعد تملك خطة سياسية، بل تستند إلى شعارات عاطفية وحلول عسكرية قصيرة الأجل قد تنجح في تحقيق أهداف تكتيكية، لكنها تسرّع من خسائرها الإستراتيجية. في عالم ما بعد أوكرانيا، وفي ظل التحولات الجذرية في مواقف الرأي العام العالمي، أصبحت شرعية إسرائيل كـ”دولة محاربة للإرهاب” محل شك، وتحول الدعم التقليدي من بعض الحكومات الغربية إلى عبء سياسي داخلي على تلك الحكومات نفسها.
الصور التي تصل من غزة يوميًا، من مشاهد الدمار الجماعي، والمجاعات، والمخيمات المكتظة، لا يمكن تغطيتها أو تبريرها في زمن الإعلام المفتوح. حملة إسرائيل الإعلامية، التي كانت في الماضي فعّالة في تلميع صورتها، باتت اليوم عاجزة عن إيقاف المد العالمي المتعاطف مع الفلسطينيين. التظاهرات الطلابية، حملات المقاطعة، قرارات المحاكم الدولية، والتصويتات الرمزية والواقعية في المؤسسات الأممية، كلها مؤشرات على أن موقع إسرائيل في النظام الدولي لم يعد محصنًا، بل هو في طور التآكل.
تغيير جذري في التعامل مع إسرائيل
هذا التآكل لا يعني فقط فقدان الدعم الأخلاقي، بل يحمل تبعات مادية وسياسية واقتصادية مباشرة. من حظر بيع الأسلحة أو تقييدها، إلى مراجعة اتفاقيات تجارية أو أمنية، إلى ضغط قانوني في المحاكم الدولية، كلها أدوات بدأت تُستخدم بجرأة أكبر ضد إسرائيل. وهذا كله يحدث بينما لا تزال القيادة الإسرائيلية عالقة في خطاب “النصر الكامل” دون أن تقدم تصورًا واحدًا لما يعنيه ذلك فعلًا أو كيف يمكن الوصول إليه دون التسبب بكارثة مستدامة.
الأخطر أن إسرائيل لا تواجه فقط غضب دول الجنوب أو الدول ذات المواقف التقليدية المؤيدة لفلسطين، بل تواجه الآن تحولًا واضحًا في الغرب الليبرالي، حيث تزايدت الانقسامات داخل المجتمع الأمريكي والأوروبي بشأن استمرار الدعم لها. الجامعات، الإعلام، الأحزاب، وحتى بعض البرلمانات، بدأت تطالب بتغيير جذري في التعامل مع إسرائيل، وتطرح أسئلة جوهرية حول أخلاقيات دعمها المستمر في ظل مشاهد الحرب الراهنة.
العُزلة الكاملة
ما يُحذر منه ميليشتاين وغيره ليس مجرد فقدان شعبية مؤقت، بل تحوّل إسرائيل إلى “دولة منبوذة” على المدى البعيد، أي أنها ستكون موضع نبذ دبلوماسي وأخلاقي، وتُعامل مثل دول خالفت الأعراف الدولية وارتكبت انتهاكات ممنهجة بحق الشعوب. هذه ليست مجرد أزمة علاقات عامة، بل تحوّل في البنية الدولية لمكانة إسرائيل نفسها.
المستقبل القريب قد يشهد انكشافًا أوسع لعجز إسرائيل عن التكيّف مع التغييرات الدولية، خاصة إذا فشلت في تقديم حل سياسي نهائي للصراع. استمرار الحرب، وغياب الأفق السياسي، وتجاهل الضغوط الأممية، كل ذلك قد يدفع العالم للتعامل معها بشكل أكثر صرامة، وصولًا إلى إمكانية فرض عقوبات أو سحب اعترافات جزئية، كما حصل مع دول أخرى فقدت شرعيتها تدريجيًا.
إسرائيل تواجه لحظة مفصلية. الاستمرار في النهج الحالي قد يجعلها أقرب إلى العزلة الكاملة من كونها “دولة طبيعية” في النظام الدولي، وكلما طالت الحرب، ازداد الثمن الذي ستدفعه، ليس فقط في ساحة المعركة، بل في شرعيتها كدولة أمام العالم.