في صمتٍ كثيف يتوارى خلف الجدران الإسمنتية لسجون الاحتلال، تتكشف واحدة من أكثر المآسي الإنسانية إيلاماً في التاريخ الحديث، مأساة لا تصنعها فقط قضبان الحديد، بل تُصاغ بعناية على يد منظومة تعذيب ممنهجة تتعمد إذلال الإنسان الفلسطيني حتى الرمق الأخير. استشهاد الأسير المسن محمد إبراهيم حسين أبو حبل، في العاشر من يناير 2025، ليس حالة فردية، بل حلقة جديدة في مسلسل طويل من الانتهاكات، الذي حوّل السجون الإسرائيلية إلى مقابر متحركة وبطيئة، يخرج منها الجسد، بعد أن يكون قد خُلع منه كل ما يربطه بالحياة.
اعتقال في ظروف غامضة
الشهيد أبو حبل، سبعيني من غزة، وأب لـ11 ابناً، اعتُقل قبل شهرين فقط من استشهاده، في ظروف غامضة عند حاجز عسكري، لكن الرواية التي تحاول إسرائيل فرضها تترك وراءها علامات استفهام أكبر من قدرتها على الإقناع. إذ لم تُقدَّم أي تفسيرات طبية موثوقة، ولا إفادات موثقة، ولا حتى شهادة وفاة واضحة، فقط جسد محتجز ورواية أمنية مطاطة، ورفض مستمر لتسليم الجثمان أو الإفصاح عن أسباب الوفاة، بما يعكس سياسة ممنهجة لطمس الأدلة وتفريغ الضحايا من إنسانيتهم.
ما حدث مع أبو حبل ليس استثناءً، بل يتكرر بوتيرة متصاعدة. فوفق تقارير رسمية صادرة عن هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير الفلسطيني، بلغ عدد الشهداء الأسرى بعد بدء الحرب الأخيرة 71 أسيراً، بينهم 45 من غزة، والأرقام مرشحة للارتفاع في ظل الاستمرار بعمليات الاعتقال الجماعي والاحتجاز في ظروف غير إنسانية. ومن بين ما تم توثيقه: التعذيب الجسدي والنفسي، الحرمان من الغذاء، الإهمال الطبي المتعمد، الاعتداءات الجنسية، وصولاً إلى فرض أمراض جلدية ومعدية على المعتقلين من خلال ظروف احتجاز مهينة ومتعمدة.
التنكيل الجماعي داخل السجون الإسرائيلية
السجون الإسرائيلية لم تعد فقط أداة ردع، بل تحولت إلى ساحات للتنكيل الجماعي، يختلط فيها الجوع بالإذلال، والمرض بالتحقير، والخوف بالموت البطيء. آلاف المعتقلين، منهم أطفال ونساء، يُحتجزون اليوم دون تهم واضحة، تحت غطاء “الاعتقال الإداري” أو تصنيف “المقاتلين غير الشرعيين”، في خرق صارخ لاتفاقيات جنيف والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
الأمر الأكثر خطورة أن هذه الانتهاكات لا تقع في الخفاء، بل تُمارس في وضح النهار، وسط صمت دولي مريب، وعجز شبه تام من المنظومة الحقوقية الدولية، التي أصبحت، بحسب وصف المؤسسات الفلسطينية، مجرد “شاهدة زور” على حرب إبادة تُمارس بغطاء قانوني مفترض، لا يخدم سوى الجلاد.
إن مطالبة المؤسسات الفلسطينية بفتح تحقيق دولي نزيه، ليست صرخة أخلاقية فقط، بل ضرورة قانونية وإنسانية لإعادة الاعتبار لمنظومة العدالة العالمية. فعدم محاسبة الاحتلال على هذه الجرائم، يرسّخ مفهوم الإفلات من العقاب، ويعني فعلياً تشريع هذه الانتهاكات، بل ودعوتها للتكرار في أماكن أخرى من العالم.
قهر وتعذيب
وفي هذا السياق، تُعدّ قضية المعتقلين من غزة نموذجاً مركباً من الانتهاك المضاعف، كونهم يُعاملون وفق تصنيفات استثنائية داخل السجون، ويحرمون من أي حقوق أو إجراءات قانونية طبيعية، ويُعرضون لأقسى أشكال القهر، في ما يشبه عمليات انتقام جماعي لا تستند إلى أي أساس قانوني.
المأساة أن كثيراً من هؤلاء الأسرى – بمن فيهم الشهيد أبو حبل – لم تُوجَّه لهم تهم، ولم يُعرضوا على محاكم عادلة، بل تم اختطافهم من الطرقات، أو من بين ركام بيوتهم، ليختفوا قسرياً، ثم يظهروا في قوائم الشهداء، دون أن يعرف أحد ما جرى بينهم وبين الموت.
إبادة ممنهجة
إن ما يحدث في سجون الاحتلال اليوم، هو جريمة مفتوحة، تندرج ضمن تصنيف الإبادة المنهجية، وتتطلب تحركاً عاجلاً من المجتمع الدولي، ليس فقط للإدانة، بل لفرض عقوبات فورية ومحاسبة قانونية لقادة الاحتلال العسكريين والسياسيين، وتفعيل آليات المحكمة الجنائية الدولية، وفرض عزلة دولية على دولة لم تعد تتردد في تجاوز كل الخطوط الحمراء.
وحتى يتحقق ذلك، تبقى قصص الأسرى الشهداء وصمة في جبين الإنسانية، ودليلاً صارخاً على انهيار المنظومة الأخلاقية للعالم، حين يتحوّل الألم الفلسطيني إلى مجرد رقم في نشرة أخبار، أو تقرير سنوي في أرشيف حقوق الإنسان.