في منعطف دراماتيكي يعكس تعقيدات الساحة السياسية والأمنية داخل إسرائيل، أعلنت حكومة الاحتلال، اليوم الثلاثاء، تراجعها رسميًا عن قرار إقالة رئيس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك) رونين بار، وذلك عقب تدخل المحكمة العليا التي جمّدت القرار سابقًا بانتظار البتّ في الطعون المقدمة ضده. هذا التراجع لم يُنهِ الأزمة، بل زاد من حدّتها، خاصة بعدما بادر بار نفسه بإعلان استقالته مساء أمس، واضعًا نهاية لمسيرته في رئاسة أحد أبرز الأجهزة الأمنية الإسرائيلية وسط اتهامات متبادلة واحتجاجات داخلية متصاعدة.
القرار الحكومي، الذي أُلغي رسميًا وفق وثيقة سلمت إلى المحكمة العليا، كان قد صدر في 20 مارس/آذار الماضي، وجاء في خضم توتر متزايد بين بار ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، خصوصًا بعد تحميل بار مسؤولية الإخفاق الأمني الذي وقع خلال هجوم السابع من أكتوبر 2023، حين نفّذت حركة حماس هجومًا غير مسبوق أسفر عن هزة عنيفة في المنظومة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية.
وفي كلمته خلال حفل لإحياء ذكرى قتلى الشاباك، اختار بار أن يعلن استقالته بشكل مفاجئ، قائلاً: “في ليلة واحدة على الجبهة الجنوبية، انهار كل شيء. الشاباك أخفق في تقديم إنذار مسبق. كمن يقف على رأس الجهاز، تحمّلت المسؤولية”. وأشار إلى أن هذا القرار لم يأت نتيجة ضغوط سياسية أو قضائية، بل وفاءً لما اعتبره “واجبًا أخلاقيًا ومهنيًا تجاه الدولة”.
غير أن خلف هذه الاستقالة مشهدًا أكثر تعقيدًا، تجلّى بوضوح في إفادة بار أمام المحكمة العليا، حيث كشف أن قرار إقالته كان سياسيًا بامتياز، ولا علاقة له بالأداء المهني، بل ناتجًا عن رفضه الخضوع لاعتبارات “الولاء الشخصي” لنتنياهو. تصريحات بار فجّرت عاصفة داخلية في إسرائيل، وأثارت تساؤلات قانونية وإعلامية حول مدى تسييس المؤسسات الأمنية في ظل الأزمات السياسية التي تواجهها الحكومة.
في المقابل، لم يتأخر رد نتنياهو، الذي وصف إفادة بار بأنها “مليئة بالأكاذيب”، واعتبرها محاولة للتنصل من “الفشل الذريع في منع أحداث 7 أكتوبر”. ورغم وعده بتقديم إفادة مكتوبة للمحكمة العليا، فإن الصمت النسبي الذي أعقب تصريحاته فُسّر في أوساط عديدة على أنه مناورة سياسية في لحظة حرجة، لا سيما وأن بار يُعد من بين الشخصيات الأمنية القليلة التي لم تُعرف بانخراطها في الاستقطابات السياسية العميقة داخل المؤسسة الحاكمة.
الجدير بالذكر أن الشارع الإسرائيلي شهد احتجاجات واسعة ضد قرار إقالة بار، حيث رأت شرائح من الرأي العام أن نتنياهو يحاول توظيف الأجهزة الأمنية كأدوات ولاء شخصية، وهو ما يهدد البنية المؤسسية للدولة، ويقوّض مصداقية منظومتها الأمنية أمام الرأي العام المحلي والدولي.
مع إعلان بار إنهاء مهامه في 15 يونيو المقبل، تدخل إسرائيل مرحلة جديدة من الغموض الأمني والسياسي، وسط شكوك متزايدة بشأن مستقبل قيادة الشاباك، وحدود تدخل القضاء في كبح جماح القرارات السياسية التي تمسّ الاستقرار المؤسسي للدولة.
هذه التطورات تأتي أيضًا في وقت تتصاعد فيه الضغوط القضائية على نتنياهو، الذي يواجه تهمًا متعلقة بالفساد، وفي ظل استحقاقات أمنية متشابكة في الضفة الغربية وغزة ولبنان. أما السؤال الأهم الآن، فهو ما إذا كانت استقالة بار ستشكّل بداية لمرحلة محاسبة جدّية داخل أجهزة الدولة، أم مجرد حلقة جديدة في سلسلة الانهيارات التي كشفت عنها هجمات أكتوبر الماضي.