يشكّل استهداف النازحين الفلسطينيين في قطاع غزة من قِبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، تصعيداً بالغ الخطورة في مسار حربٍ يمكن وصفها بكل وضوح بأنها حرب إبادة جماعية ممنهجة. إن مهاجمة المدنيين العزّل، وخاصة في أماكن يُفترض أن تكون ملاذاً آمناً مثل المدارس والمستشفيات، لم تعد مجرد حوادث معزولة، بل باتت نمطاً متكرراً يكشف نية واضحة لإخضاع سكان القطاع عبر الترويع والتدمير الكامل للبنية المجتمعية والإنسانية.
حياة المدنيين لا تساوي شيئاً
في خان يونس، استُهدفت مدرسة كانت تأوي نازحين، وقتل في القصف عدد من المدنيين من بينهم الطفلة ميار أبو عودة، ذات الثمانية أعوام، والتي شيّع جثمانها وسط حالة من الحزن والقهر الجماعي. لا يمكن لهذا المشهد أن يُفهم بمعزل عن سياسات ممنهجة تتبعها إسرائيل منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023، حيث يُقصف النازحون في المدارس التي دعتهم الأمم المتحدة أصلاً للجوء إليها، وتُهاجم المستشفيات كما حدث مع مستشفى «شهداء الأقصى» في دير البلح، في سلوك صريح لفرض معادلة: “لا مكان آمناً في غزة”.
إن استهداف سطح مستشفى يعج بالمرضى والمصابين ليس فقط انتهاكاً للقانون الدولي، بل رسالة قاسية بأن حياة المدنيين لا تساوي شيئاً في حسابات الحرب. وهذه الرسالة تترسخ يومياً في وعي الفلسطينيين، الذين يجدون أنفسهم في مواجهة آلة عسكرية لا تفرق بين مقاتل وطفل، بين مركز طبي ومنشأة عسكرية.
تواطؤ سياسي لوجود مصالح مع إسرائيل
لكنّ المعضلة الأكبر ليست فقط في حجم العنف المُستخدم، بل في حالة الشلل التي تصيب المجتمع الدولي. فبينما تتوالى الصور الصادمة وتُحصى الأرقام بالمئات يومياً، تكتفي كثير من الدول بتصريحات خجولة أو دعوات “لضبط النفس”. الصمت العالمي، خاصة من القوى الكبرى القادرة على التأثير، لم يعد محايداً، بل بات شريكاً في الجريمة من خلال الامتناع عن اتخاذ خطوات جدّية لوقف المذبحة.
هناك أسباب عدة لهذا الغياب الفعّال للمجتمع الدولي، أولها تواطؤ سياسي تغذّيه مصالح استراتيجية واقتصادية مع إسرائيل. وثانيها، الانقسام العالمي حول معايير “حقوق الإنسان”، إذ يبدو أن هذه الحقوق تفقد قيمتها عندما يتعلق الأمر بالعرب أو المسلمين. وثالثها، فشل المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، في فرض الحماية الفعلية للمدنيين في المناطق المنكوبة، وتحولها إلى كيان يكتفي بالإحصاء والتنديد دون أدوات تنفيذية رادعة.
انتهاك صارخ للمواثيق الدولية
هذا التجاهل العالمي، المقصود أو غير المقصود، شجّع إسرائيل على المضي قدماً في حربها على غزة دون خشية من العقاب أو حتى المحاسبة الأخلاقية. الأسوأ من ذلك، أن بعض الدول، بدلاً من إدانة المجازر، تواصل تزويد إسرائيل بالسلاح والدعم اللوجستي، في انتهاك صارخ لكل المواثيق الدولية التي تجرّم المشاركة أو التواطؤ في جرائم الحرب.
ما يحدث في غزة اليوم ليس مجرد فصل آخر في صراع طويل، بل اختبار أخلاقي حقيقي للعالم. فاستهداف النازحين، والمرضى، والأطفال، لا يترك مجالاً للحياد، وكل لحظة صمت هي لحظة تواطؤ. إن لم يتحرك العالم الآن لوقف هذه الإبادة، فإنه يُعلن صراحة أن دم الفلسطيني لا يساوي شيئاً في ميزان السياسة الدولية.