في الوقت الذي يشهد فيه جنوب لبنان تصعيدًا مستمرًا مع الجيش الإسرائيلي، جاء خطاب الأمين العام المساعد لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، مساء السبت، ليجدد التأكيد على ثوابت الحزب في ما يعتبره “معركة مصيرية”، لا مكان فيها لمراجعة الخيارات أو التراجع عنها.
فمن على منبر المجلس العاشورائي في مجمع سيد الشهداء بالضاحية الجنوبية، أعلن قاسم بوضوح أن خيار المقاومة ليس موضع نقاش أو مساومة، بل هو قدر لا رجعة فيه، واضعًا الحزب أمام ثنائية وصفها بـ”العزّة أو الشهادة”، في ما يشبه بيان التحدي المفتوح لإسرائيل، ورسالة طمأنة داخلية لحاضنته الشعبية التي تواجه منذ أشهر ضغوطًا أمنية واقتصادية متزايدة.
المقاومة بوصفها عقيدة لا استراتيجية
يتجاوز خطاب قاسم الطابع السياسي إلى بعد عقائدي واضح. ففي معرض حديثه، شدد على أن النصر ليس بالضرورة ماديًا، بل قد يُقاس بالإيمان والاستعداد “والتسديد الإلهي”، وفق تعبيره. وهذا الطرح لا يخلو من دلالة رمزية، تؤكد أن الحزب لا ينظر إلى موازين القوى التقليدية أو حسابات الربح والخسارة، بقدر ما يعتبر المواجهة جزءًا من التزام ديني وتاريخي، لا يُقاس بالمكاسب الظرفية.
إلا أن هذه المقاربة، رغم تماسكها داخل سردية الحزب، تطرح تساؤلات من خارج دائرته؛ إذ يرى مراقبون أن اختزال المسار السياسي والعسكري في لبنان إلى معادلة “الدم مقابل الردع” يعزز منطق الاستنزاف ويُغلق أي هامش لمبادرات الحل أو الخروج من نفق المواجهة المستمرة. كما أن ربط النصر بالسنن الإلهية يُبقي المشهد مفتوحًا على احتمالات لا يمكن التنبؤ بنتائجها، خصوصًا في ظل غياب استراتيجية سياسية واضحة تُرافق العمل العسكري.
رسائل موجهة في أكثر من اتجاه
الخطاب، وإن أُلبس بثوب المناسبة الدينية، لم يخلُ من رسائل سياسية متعددة المستويات. فمن جهة، حرص قاسم على تأكيد أن حزب الله لا يقاتل فقط من منطلق رجولي تقليدي، بل إن خيار المقاومة “يشمل النساء والأطفال”، وهو ما يشي بمحاولة توسيع مفهوم التعبئة المجتمعية ليشمل كافة مكونات المجتمع، ويُعيد التأكيد على ما يعتبره الحزب وحدة الجبهة الداخلية.
ومن جهة أخرى، جاء تأكيده على “إعداد العدّة والمراجعة المستمرة” كمؤشر على أن الحزب، رغم خطابه الإيماني، لا يغفل أبعاد الجهوزية العسكرية والتكتيكية، وربما أراد بهذا القول طمأنة جمهوره في ظل التصعيد مع إسرائيل، الذي لم تصل تداعياته بعد إلى مستوى المواجهة الشاملة، ولكن تبعاته السياسية والإنسانية باتت محسوسة بوضوح.
إشكالية التوازن بين العقيدة والسياسة
التمسك بخيار المقاومة لا يثير الإشكال في ذاته، بقدر ما يطرح أسئلة حول مدى قدرة هذا الخيار على مواكبة متغيرات الواقع اللبناني، ومآلاته المستقبلية. فبينما يرى الحزب أنه يواجه “عدوانًا إسرائيليًا متكررًا”، تتعالى في الداخل اللبناني أصوات تعتبر أن استمرار التصعيد يُفاقم عزلة لبنان، ويضاعف كلفة الصراع على دولة تتآكل مؤسساتها وتئن تحت وطأة الانهيار الاقتصادي.
ولا يخفى أن معادلة “الانتصار المعنوي” التي يروج لها الحزب قد تُصبح مكلفة على المدى الطويل، في ظل غياب سياسة احتواء للآثار الاجتماعية والنفسية للنزاع، وتراجع قدرة الدولة على لعب دور الوسيط أو حتى الطرف السيادي القادر على ضبط إيقاع المواجهة.
لبنان أمام منعطف حساس
خطاب نعيم قاسم جاء ليؤكد ما هو مؤكد داخل أدبيات حزب الله، لكنه أعاد طرح الأسئلة الكبرى التي تتجاوز سياق المناسبة العاشورائية. فإلى أي مدى يمكن للبنية العقائدية أن تظل إطارًا فاعلًا في بيئة إقليمية متحولة؟ وهل يكفي رصيد الإيمان والجهوزية لضمان تماسك الجبهة الداخلية، في بلد تتآكل فيه مفاصل الدولة ويتعاظم فيه ثقل الأزمات؟
ربما لا تحمل الإجابات الحاسمة، لكن المؤكد أن لبنان يقف أمام منعطف حساس، يتطلب من الجميع – بمن فيهم حزب الله – أن يعيدوا النظر في منطق “المواجهة الدائمة”، لصالح مشروع وطني جامع، يعيد الاعتبار للسيادة ويوازن بين متطلبات الردع وشروط الاستقرار.