تعكس مواقف حركة حماس خلال مفاوضات وقف إطلاق النار الحالية تصعيداً تفاوضياً غير معتاد، يُظهر تمسّك الحركة بسقف شروط مرتفع في مواجهة طرف يملك تفوقاً عسكرياً مطلقاً، ما يطرح تساؤلات حول دوافع هذا التصلب السياسي في ظل كارثة إنسانية متصاعدة داخل قطاع غزة. وبينما تُظهر لغة حماس السياسية إصراراً على انسحاب كامل للقوات الإسرائيلية وضمان إنهاء دائم للحرب قبل إطلاق سراح الرهائن، فإن ذلك يُنظر إليه من قبل الوسطاء ومن الجانب الإسرائيلي على أنه تعنّت لا يتماشى مع ميزان القوى الفعلي على الأرض، ولا مع فداحة الخسائر التي يتكبّدها المدنيون الفلسطينيون يومياً.
انتزاع مكاسب سياسية
التمسك بخريطة انسحاب كاملة وعدم قبول ما وصفته الحركة بـ”المناطق العازلة” بعمق 3 كيلومترات، التي تُبقي ما يقارب 40% من قطاع غزة تحت سيطرة إسرائيل، يعكس رغبة حماس في انتزاع مكاسب سياسية من المفاوضات توازي ما تعتبره “صموداً ميدانياً”، لكنها في المقابل تُدخل المفاوضات في دائرة مغلقة، خاصة في ظل رفضها لمقترحات مؤقتة لوقف النار أو حلول إنسانية جزئية، كتمهيد لاتفاق أوسع.
الحركة تُدرك تمامًا أن قطاع غزة يعاني من شلل كامل على المستويات كافة، مع دمار هائل في البنى التحتية، وانهيار في النظام الصحي، ونزوح ملايين السكان، ومجازر يومية تُرتكب بحق المدنيين. ورغم ذلك، تُصر على معادلة “وقف الحرب أولاً ثم تبادل الرهائن”، ما يجعلها – في نظر الكثير من المراقبين – تتصرف وكأنها الطرف المنتصر أو الأقل خسارة، دون مراعاة حقيقية للكلفة الإنسانية الباهظة.
حماس أمام معضلة أخلاقية
هذا الموقف يستند إلى قناعة راسخة لدى قيادة حماس بأن أي قبول بوقف مؤقت لإطلاق النار دون اتفاق شامل سيمنح إسرائيل فرصة لإعادة التموضع وإطالة أمد الصراع، وربما فرض وقائع جديدة على الأرض عبر المناطق العازلة أو مشاريع التهجير المقنّع مثل “المدينة الإنسانية” في رفح. ولذلك، ترى الحركة أن الصلابة في التفاوض الآن قد تمنع محاولات التفاف إسرائيلية لاحقة، ولو على حساب الواقع الإنساني القاسي الذي يعيشه السكان.
لكن في المقابل، فإن هذا المنطق يضع حماس أمام معضلة أخلاقية واستراتيجية. إذ أن إصرارها على شروط شبه مستحيلة التحقق في ظل الرفض الإسرائيلي المطلق للانسحاب الكامل أو الاعتراف بها كجهة شرعية في القطاع، يؤدي إلى استمرار المعاناة اليومية للسكان، ويعرّضها داخلياً لاتهامات باستغلال المعاناة كأداة تفاوضية، لا كأولوية إنسانية.
من جهة أخرى، فإن رفض الحركة توزيع المساعدات عبر القنوات المدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة، رغم رفض الأمم المتحدة لهذا الأسلوب أيضاً، يُظهر تمسكها بالسيادة الميدانية في المناطق التي لا تزال تحت نفوذها، لكنها بذلك تُعيق، ولو جزئياً، دخول مساعدات حيوية لسكان يعيشون تحت خط المجاعة، بحسب تقارير أممية.
الحركة تغامر برصيدها الشعبي
ويبدو أن حماس تراهن على تصاعد الضغط الداخلي داخل إسرائيل من قبل عائلات الرهائن والتظاهرات الشعبية، وتراهن أيضاً على تبدّل محتمل في الإدارة الأميركية مع اقتراب الانتخابات، وهو ما يفسّر تمسكها بمواقفها التفاوضية الحالية رغم الجمود.
يمكن القول إن حماس تتعامل مع مفاوضات الهدنة كمعركة سياسية تعادل في أهميتها المعركة الميدانية، وتحاول تحقيق انتصار رمزي بعد شهور من الحصار والهجمات الكاسحة. لكن في هذا المسار، تبدو الحركة وكأنها تغامر برصيدها الشعبي والإنساني، وتُبقي القطاع رهينة لمنطق المكاسب السياسية على حساب الأرواح والدمار المتراكم.