تمر العلاقات الدولية اليوم بظروف شبيهة للحرب الباردة، ولكن مع أكثر من خمسين صراعا شهده العالم منذ 2023، مما يعني بأن الجزائر أمام تهديدات أمنية مختلفة تشمل مجالها الدفاعي والاقتصادي والإعلامي بالدرجة الأولى.
لكن الوضع المختلف اليوم يكمن في “الطرف الثاني” للاحتواء وهو الصين، فهي تختلف عن الاتحاد السوفييتي تماما، فإذا كانت موسكو أضعف اقتصاديا وسكانيا وإعلاميا وتكنولوجيا من أمريكا، فإن الصين اليوم هي ثاني أكبر اقتصاد عالميا، والأكبر ديموغرافيا من أمريكا، والمهيمنة على عدة تكنولوجيات أيضا، ورائدة في مجال الإعلام سواء الرقمي مثل التيك توك أو في مجال تكنولوجيات الاتصال مثل شبكات الجيل الخامس.. إضافة إلى عوامل أخرى تعزز وزنها الجيوسياسي في العلاقات الدولية وتجعلها في وضع مغاير تماما عن السوفييت في النصف الأخير من القرن العشرين.
وبناء على هذه المعطيات، لن يكون سيناريو الاحتواء الأمريكي- الصيني مستقبلاً مثل سيناريو التنافس الأمريكي- الروسي في الماضي، فإذا كان التنبؤ بسقوط الشيوعية السوفييتية في القرن الماضي ممكنا بناء على عدة عوامل والتي من بينها نقاط الضعف التي سبق ذكرها، فإن التنبؤ بالسيناريو نفسه مع الصين صعبٌ جدا للعوامل نفسها ولكن على شكل نقاط قوة لصالح الصين.
لماذا ساءت العلاقات الجزائرية الفرنسية إلى هذا الحد؟
في هذا الإطار، فإن رصد التحولات الطارئة على الجزائر ومحيطها سيكون أهم عمل استباقي لتجهيز البلاد من أجل استغلال الفرص، وصد التهديدات، والاستثمار في نقاط القوة، وتقوية نقاط الضعف.
ومن أجل ذلك، لابد من فهم جوهر سياسة الاحتواء بالأساس، لأن فهمها وفهم أدواتها هو ما سيمكن من معرفة السياسة الممكن انتهاجها مع فواعل الاحتواء.
أولا: ما هو الاحتواء الجيوسياسي؟
عرّف تقرير من صنف (سري جدا) صادر عن المجلس الوطني للأمن بالولايات المتحدة الأمريكية في 1950 سياسة الاحتواء بأنها: “العمل بكل الوسائل الممكنة باستثناء الحرب لمنع توسع القوة السوفييتية”.
واستنادا لهذا التعبير، يمكن ملاحظة أنه ما عدا العمل المسلح، فإن كل السياسات والوسائل، ومن بينها التضليل الإعلامي، والعقوبات الاقتصادية، والحرب التجارية، والعزل الدبلوماسي، وغير ذلك، مطروحة في إستراتيجية الاحتواء.
لقد ورث الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية حدودا شاسعة جغرافيّا وطموحات توسعية جيوسياسيا، تمثلت تلك الطموحات في تصدير إيديولوجية الثورة الشيوعية المعروفة اختصارا بـ”الأممية” نحو أوسع نطاق ممكن من العالم وبالأخص الشرقي والجنوبي منه، مع الزحف إلى شرق أوروبا ودول البلطيق والبلقان والتموضع في وسط أوروبا قدر الإمكان، مع مناهضة الرأسمالية الغربية باعتبارها النقيض الوجودي للمنهج الاشتراكي. وإضافة لكل ذلك، فقد ورث ترسانة عسكرية ضخمة مع ثقل سياسي معتبر جعله القطب الثاني في العلاقات الدولية بمقابلة الولايات المتحدة الأمريكية.
ارتأى -من خلال هذا الواقع- رئيسُ قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية آنذاك (جورج كينان) صياغة إستراتيجية (الاحتواء) كمحاكاة مشابهة لفرض الحجر الصحي لمنع (عدوى الشيوعية) من الانتشار إلى مناطق نفوذ جديدة، وحدث ذلك في سنة 1947م بمجلة (الشؤون الخارجية) إذ تقدَّم بفكرة ضرب حصار طويل الأمد لاحتواء السياسة التوسعية للاتحاد السوفييتي.
تمثلت الحجة الأساسية التي دفعت نحو انتهاج سياسة الاحتواء في “القناعة التامة بالعداء الأصيل بين الرأسمالية والاشتراكية”، فالأدبيات الاشتراكية تفترض بأن النهاية الحتمية للتطوُّر الجدلي للتاريخ هي انهيار الرأسمالية، ولن يحدث ذلك الانهيار من دون الدخول في صراع مع الطبقات البروليتارية المعتنقة للشيوعية كإيديولوجيا سياسية، وللاشتراكية كمنهج اقتصادي. وعليه، فمن المنطقي أن أي محاولة لرأب الصدع في العلاقة الجدلية بين القطبين المتناقضين ستبوء بالفشل لأن أسس كل منهما تحتِّم في النهاية زوال أحدهما.. مما يعني بأنه على السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية من تبني إستراتيجية الاحتواء لمنع السوفييت من الوصول للهدف الوجودي لهم وهو هدم المنظومة الرأسمالية.
أما اليوم، فإن هذه العوامل الإيديولوجية -رغم وجودها- إلا أنها تعززت بنوع من التمويه الاستراتيجي الصيني، فالولايات المتحدة الأمريكية لم تعد تتكلم عن الشيوعية الصينية إلا بصعوبة، لأن الصين تنتهج نهجا ليبراليا في الاقتصاد، وهذا ما يعقّد من سياسة الاحتواء الأمريكية.
جوهر الاحتواء إذن هو منع الخصم من التوسع، أي وضعه في انكماش جيوسياسي ولكن من دون استعمال وسائل الحرب.
وجوهر المفارقة الإستراتيجية اليوم هو أن المرتكزات التي تستند إليها أمريكا في منع توسع الصين، تستعملها الصين نفسها لتحقيق التوسع، أي “المرتكزات والأدوات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية”.. وليست “الإيديولوجيا” مثلما كان يركز الاتحاد السوفييتي سابقا.
وإذا كانت الجزائر قد تأثّرت في الماضي بذلك الاستقطاب من الناحية الإيديولوجية أكثر مما استفادت من الناحية الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، فإنها اليوم أمام فرص إستراتيجية تاريخية للتموضع في مرحلة جديدة من الاحتواء المتبادل يوظف فيه طرفا التنافس كل ما لديهما من الأدوات، مما يفتح للدول الإقليمية هوامش مناورة جديدة تمكّنها من الاستثمار في الوضع لصالحها عبر مقاربتي “القوة المتوسطة” و”التوازنات الإقليمية”.. أي بالتعامل مع طرفي التنافس لا كدولة خاضعة للاستقطاب بل كقوة تتوسط التناقض لتخفيف حدته -وهي إبان ذلك تنال أكبر قدر من المصالح- وتطبّق ذلك التوسط على شكل توازن إقليمي في المنطقة لتحافظ فيه على مصالح مختلف الأطراف، وهي بذلك أيضا تحافظ فيه على مصالحها، ومع ذلك فإن هذا المسار لا يخلو من التهديدات التي تتمثل في منافسين إقليميين يسعون إلى كبح النمو الجيوسياسي الجزائري، ومطالب داخلية تزداد طموحاتها اطراديا مع النمو الوطني.