الاستبيان الأخير الصادر عن وزارة الاقتصاد الوطني الفلسطيني يقدم صورة صادمة عن حجم الكارثة الاقتصادية في الضفة الغربية، نتيجة الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية المتواصلة بحق الاقتصاد المحلي، خاصة في محافظات جنين وطولكرم ونابلس وطوباس. هذه المناطق، التي تحولت إلى ساحات اشتباك دائم واقتحامات ليلية متكررة، تدفع اليوم ثمنًا باهظًا من أمنها الاقتصادي، وهو ثمن لم يعد يمكن فصله عن الاستراتيجية الأوسع التي يتبعها الاحتلال في تدمير مقومات الحياة الفلسطينية، اقتصاديًا كما سياسيًا.
انكماش الناتج المحلي
الضرر لا يظهر فقط في أرقام انكماش الناتج المحلي بنسبة 28%، بل يتجلى في التفاصيل اليومية لأصحاب المنشآت الصغيرة والمحال التجارية التي أُجبرت على الإغلاق، أو تعمل بربع طاقتها الإنتاجية بسبب الإغلاق، الاجتياحات، وانقطاع سلاسل التوريد. الأرقام تحمل دلالات خطيرة: أكثر من نصف المنشآت توقفت عن العمل كليًا أو جزئيًا، وفي جنين وطولكرم تجاوزت النسبة 80%، أي أن ثمانية من كل عشرة منشآت تجارية أو إنتاجية لم تعد قادرة على العمل الطبيعي. وهذا لا يُعد فقط تراجعًا اقتصاديًا، بل هو حالة من الشلل الاقتصادي.
عندما يُسجّل أكثر من 92% من المنشآت انخفاضًا في الإيرادات، بمعدل 58% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، فهذه ليست مجرد أزمة مؤقتة، بل انهيار اقتصادي تدريجي ناتج عن تدمير البنية الاقتصادية نفسها، لا بسبب سوء إدارة أو ضعف السوق، بل بفعل مباشر من سياسات الاحتلال التي توظف القمع كأداة اقتصادية. مداهمات، هدم، مصادرة معدات، حواجز عسكرية، وقطع الطرق كلها عوامل تُستخدم لخنق الاقتصاد المحلي وإبعاده عن أي قدرة على النمو أو حتى الصمود.
تفكيك شبكات الدعم المجتمعي
المنشآت الصغيرة ومتناهية الصغر كانت الأكثر تضررًا، لأنها تفتقر إلى هامش مالي أو مخزوني يساعدها على تحمل الانقطاعات والتأخيرات. هذه المنشآت تُشكّل عماد الاقتصاد المحلي، ومن خلال استهدافها، يتم تفكيك شبكات الدعم المجتمعي. وعندما تبلغ نسبة المتأثرين بصعوبات توفير المواد الخام أو تأخر التوزيع أكثر من 60%، فإن الحديث لا يكون فقط عن اقتصاد مأزوم، بل عن منظومة إنتاجية أصبحت خارج الخدمة تقريبًا.
المنشآت النسائية تمثل نقطة إنذار إضافية، إذ تعرّضت ما يزيد عن 80% منها لتراجع كبير في المبيعات، وهو ما يُهدد مكاسب ضعيفة تحققت في السنوات الماضية في مجال التمكين الاقتصادي للمرأة. الاقتصاد، في هذه الحالة، لا يُقصف فقط بالرصاص، بل يُفكّك أيضًا في أبعاده الاجتماعية والتنموية.
الحواجز العسكرية التي تجاوزت الألف في الضفة الغربية ليست فقط أدوات أمنية، بل أدوات حصار اقتصادي. إذ تعجز الغالبية العظمى من المنشآت عن التنقل بين المحافظات، وتتراجع حركة الزبائن من الداخل المحتل، ما يُسهم في تجفيف الأسواق المحلية. هذا يعني أن تراجع الأداء الاقتصادي ليس فقط نتيجة الخوف أو الأضرار المباشرة، بل هو نتاج استراتيجية ممنهجة لعزل كل محافظة عن الأخرى، وتحويلها إلى “جزيرة اقتصادية” مشلولة.
انهيار النموذج المجتمعي الفلسطيني
هذا الواقع لا يُمكن عزله عن السياق السياسي الأشمل الذي يدفع باتجاه تفريغ الأرض من سكانها أو على الأقل تدمير أسس بقاءهم. فالاقتصاد هنا يُستخدم كسلاح: حين تُشل حركة البضائع، وحين يُجبر التجار على الإغلاق، وحين تُقصف سبل العيش، فإن الاحتلال لا يُقاتل فقط بالأمن والعسكر، بل يُمارس شكلًا معاصرًا من الحصار الناعم الذي يُشبه “الإعدام الاقتصادي البطيء”.
الضفة الغربية، في ظل هذا التدمير المنهجي، لا تواجه أزمة مالية عابرة، بل تواجه خطر فقدان قدرتها على إنتاج نفسها بنفسها. وفي حال استمرت هذه السياسة، فإن النتائج قد تكون أبعد من مجرد خسائر اقتصادية، بل تهدد بانهيار النموذج المجتمعي الفلسطيني القائم على السوق المحلي والتجارة الداخلية، ما يفتح الباب أمام تبعيات اقتصادية وسياسية كارثية يصعب التراجع عنها في المستقبل.