تتصاعد التوترات في منطقة الساحل الإفريقي بسرعة تنذر بتغيير جوهري في موازين القوى الإقليمية. فبعد إعلان كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو سحب سفرائهم من الجزائر، على خلفية اتهامها بإسقاط طائرة مسيرة تابعة للجيش المالي أواخر مارس/آذار الماضي، دخلت العلاقة بين الجزائر وتحالف الدول الثلاث في منعطف جديد لا يخلو من الدلالات الجيوسياسية والأمنية العميقة.
رد الجزائر لم يتأخر. ففي بيان رسمي شديد اللهجة، أعربت الحكومة عن رفضها لما وصفته بـ”الاتهامات الخطيرة وغير المؤسسة”، معتبرة أن حماية سيادتها الجوية “خط أحمر”، وأن الطائرة التي تم إسقاطها كانت “مسيّرة مسلحة” اخترقت المجال الجوي الجزائري. لكن خلف هذا الاشتباك الدبلوماسي، ثمة صراع أوسع يدور في الكواليس، عنوانه “من يملك القرار في الساحل؟”.
تصدّع العلاقة… محاولة كسر الطوق الجزائري
منذ الانقلابات العسكرية التي أطاحت بالحكومات المدنية في مالي (2021)، بوركينا فاسو (2022)، والنيجر (2023)، تسعى هذه الدول إلى خلق محور جديد يقطع مع الإرث الفرنسي الاستعماري، ويتحرر من وصاية القوى الإقليمية التقليدية، وفي مقدمتها الجزائر.
المواقف العدائية ضد الجزائر، وإن غُلّفت بخطاب وطني، تعبّر عن محاولة لكسر الطوق السياسي الذي لطالما فرضته الجزائر عبر مبادرات الحوار والوساطة، والتي كانت تضع الاستقرار الإقليمي فوق النزعة التوسعية أو الحسابات الضيقة. تحالف العسكر يريد فرض معادلة جديدة يكون فيها القرار محصوراً في ثنائية “القوة العسكرية + الحليف الروسي”، متجاوزاً اعتبارات الجغرافيا والشرعية التاريخية.
التحالف الثلاثي، الذي شكّل في يناير 2024 “اتحاد دول الساحل”، يتجه نحو إعادة تعريف علاقاته الإقليمية والدولية، من خلال تقارب واضح مع روسيا، وقطيعة شبه تامة مع فرنسا، وتوجس من دور الجزائر، التي لطالما اعتُبرت ضامن التوازن في المنطقة. ويبدو أن هذه الدول بدأت تنظر إلى الجزائر، لا كشريك في الأمن والاستقرار، بل كعائق أمام إعادة تشكيل مركز الثقل في الساحل على أسس جديدة تتجاوز دور “الشرطي الإقليمي”.
غياب فرنسا… وفراغ تحاول موسكو ملأه
الفراغ الذي خلّفه التراجع الفرنسي لم يُترك بلا بدائل. روسيا، بحضورها المرن عبر الشركات الأمنية الخاصة مثل “فاغنر”، استطاعت أن تقدّم نفسها كشريك لا يطرح شروطاً سياسية، وهو ما يناسب الأنظمة العسكرية حديثة العهد في دول الساحل. لكن هذا التمدد الروسي لم يمر دون تبعات؛ فالوجود الروسي في الساحل لا يُبنى على توافقات داخلية أو منظومات إقليمية بل على علاقات ثنائية هشّة تُبنى على المصالح الآنية، وليس الرؤى الاستراتيجية طويلة الأمد.
الجزائر، التي تتقاطع مصالحها مع روسيا في ملفات عدة، تدرك خطورة وجود عسكري روسي غير منضبط في جوارها الجنوبي، خاصة إذا ما تحوّل إلى ورقة تستخدمها أنظمة لا تتردد في توجيه التهديدات إلى حدودها. من هنا تأتي حساسية الجزائر تجاه هذا التحالف، لا من زاوية الولاءات الدولية، بل من زاوية مآلات هذه التحالفات على استقرار المنطقة.
الجزائر في عين العاصفة… لكن بأوراق قوية
الجزائر ليست في موقع رد الفعل فقط، بل تدير الأزمة بمنطق “الصبر الاستراتيجي”. الدولة التي جنّبت حدودها حرباً أهلية في مالي سابقاً، واحتضنت اتفاق السلم والمصالحة عام 2015، تدرك أن الفوضى التي يسعى البعض إلى تصديرها نحو شمال الساحل لا يمكن مواجهتها بالضجيج الدبلوماسي، بل ببناء تحالفات عميقة وهادئة مع القوى الإفريقية الشرعية والشعوب التي لم تعد تثق في مغامرات العسكر.
الجزائر تتحرك عبر مسارات موازية: تعزيز التنسيق الأمني مع دول الجوار المستقرة، تقوية الشراكة مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، وإعادة تموقعها كقوة إقليمية لا تُهدد أحداً لكنها لا تقبل المساس بسيادتها. في مقابل تحالف يراهن على التهويل والضغط الإعلامي، تراهن الجزائر على ثقلها الجغرافي والدبلوماسي والطاقوي، وهو رصيد لا يمكن تجاوزه مهما بلغت محاولات الإقصاء.
واشنطن تراقب… وباريس تُقصى
الولايات المتحدة وإن لم تُبدِ موقفاً واضحاً من التوتر الحالي، إلا أنها تتابع بقلق التحولات في الساحل. انسحابها التدريجي من النيجر دليل على أنها لا ترى في تحالف العسكر شريكاً مستقبلياً يمكن الاعتماد عليه في مكافحة الإرهاب العابر للحدود. في المقابل، تبقى الجزائر محل ثقة في الدوائر الأمريكية نظراً لما تملكه من قدرة على ضبط الحدود، وتفكيك الشبكات الإرهابية من دون تدخل أجنبي.
أما باريس، فقد وجدت نفسها خارج اللعبة تماماً، لا بفعل الجزائر، بل نتيجة إرثها الاستعماري وسوء إدارتها لعلاقاتها في الساحل. وهذا ما يمنح الجزائر أفضلية نسبية في المرحلة المقبلة، فهي لم تتورط في استعمار مباشر، ولم تفرض إرادتها على دول الساحل، بل تحرّكت دائماً بمنطق الشراكة لا الهيمنة.
من منا يُهدد الاستقرار فعلاً؟
الخطاب الذي تروّجه الأنظمة العسكرية في الساحل يقوم على معادلة مغلوطة: من ليس معنا فهو ضدنا. وهذا منطق يتنافى مع أبجديات العمل الإقليمي المشترك. الجزائر لا تنازع أحداً على زعامة وهمية، بل تحذّر من أن تحوّل “شعارات التحرر” إلى غطاء لحكم الفرد، وتحويل المنطقة إلى ملاذ للجماعات المتطرفة والسلاح غير المنضبط.
من يُهدد الاستقرار ليس من يرفض الاختراقات الجوية، بل من يسمح بتحويل أراضيه إلى ساحة مفتوحة للمصالح الدولية المتصارعة. الجزائر تدافع عن استقرارها، وعن منطق الدولة في مواجهة منطق الميليشيا والارتزاق السياسي، ولهذا فإنها لا تنجرّ إلى التصعيد الإعلامي، بل تراهن على الزمن والحقائق الميدانية.