في سابقة جديدة تعكس اتساع رقعة التحولات التي تشهدها المملكة العربية السعودية في مجال النقل والتقنيات الذكية، كشفت وزارة النقل عن بدء تنفيذ تجربة عملية لنقل البضائع والركاب عبر التاكسي الجوي، في شراكة مع شركة “فلاي ناو أرابيا” المتخصصة في تقنيات الطيران الحضري المستدام.
التجربة، التي تنطلق من حرم جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، تمثل أول اختبار عملي على الأراضي السعودية لطائرات كهربائية صغيرة الحجم، ذاتية القيادة، تهدف في مرحلتها الأولى إلى خدمة قطاع الشحن، قبل أن تتوسع إلى نقل الركاب داخل المدن وعلى أطرافها.
ويبدو أن الرياض، التي تسعى لأن تتحول إلى نموذج عالمي للمدن الذكية، تراهن على هذا النوع من النقل الجوي لتقليص الازدحام، وتوفير بدائل أكثر كفاءة للوسائل التقليدية، لاسيما مع التوسع العمراني الكثيف والتحديات اللوجستية التي تفرضها الكثافة السكانية المتزايدة.
الرئيسة التنفيذية لشركة “فلاي ناو أرابيا”، إيفون وينتر، أوضحت أن الطائرات المعتمدة في هذا المشروع تعمل بالكهرباء بالكامل، وتُدار ذاتيًا دون تدخل بشري مباشر، عبر أنظمة ملاحية تعتمد على مسارات رقمية محددة مسبقًا. الطائرات – المعروفة باسم “إيكوبتر” – قادرة على نقل حمولات تصل إلى 200 كيلوغرام، بسرعة تصل إلى 130 كيلومترًا في الساعة، ضمن نطاق جوي لا يتجاوز 50 كيلومترًا في الرحلة الواحدة.
بعيدًا عن الإبهار التكنولوجي، تركز التجربة السعودية على خفض التكاليف التشغيلية وتوطين هذه التكنولوجيا تدريجيًا. بحسب تصريحات الشركة، لا تتجاوز تكلفة إنتاج الطائرة الواحدة 350 ألف يورو، وهو ما يجعلها في متناول مشاريع المدن الذكية، مقارنة بطائرات مماثلة قد تصل قيمتها إلى أكثر من 15 مليون يورو.
تُشير المعطيات الأولية إلى أن هذه الخدمة، في حال اعتمادها رسميًا، ستُحدث تغييرًا لافتًا في سوق النقل داخل المدن الكبرى، حيث من المتوقع أن توفر بديلاً سريعًا وفعّالًا من حيث الكلفة، وتُسهم في تقليص الاعتماد على سيارات الأجرة التي يعمل بها مئات الآلاف من السائقين في الرياض وحدها.
الخطوة السعودية ليست معزولة عن سياق أوسع من التجارب المحلية السابقة؛ ففي موسم الحج لعام 2024، شهدت البلاد تسيير أول سيارة أجرة طائرة مرخصة في العالم، وذلك في إطار تجربة أشرفت عليها وزارة النقل. وتبع ذلك ترخيص رسمي من هيئة الطيران المدني لتشغيل هذا النوع من المركبات الجوية داخل المجال الحضري.
كما تدخل مدينة “نيوم” هذا السباق الطموح من زاوية مختلفة، إذ أعلنت قبل عامين عن شراكة استراتيجية مع شركة “فولوكوبتر” الألمانية، تضمنت شراء 15 طائرة كهربائية من طراز “VoloCity”، لاستخدامها في نقل الركاب داخل نطاق المدينة المستقبلية، إلى جانب نماذج أخرى لنقل البضائع. وتهدف “نيوم” إلى دمج هذه الوسائل ضمن بنيتها التحتية، دون الحاجة إلى مدارج تقليدية، بالاعتماد على منصات طيران عمودية ومسارات طيران منخفضة الارتفاع.
في خلفية هذا المشهد، تبرز “رؤية 2030” باعتبارها المحرك الأساسي لهذه المشاريع، حيث تحاول المملكة عبرها التحرر من النموذج الاقتصادي الريعي، والانفتاح على تقنيات المستقبل، بما في ذلك الطيران الحضري، والذكاء الاصطناعي، والتنقل النظيف.
وإذا ما سارت هذه المشاريع وفق التصور المعلن، فإن السعودية قد تتحول خلال سنوات قليلة إلى واحدة من أبرز الدول التي توظف النقل الجوي المدني غير المأهول ضمن حياتها اليومية، لتشكل بذلك تجربة إقليمية رائدة في إعادة تعريف مفهوم “المدينة الذكية”، بما يتجاوز الأطر التكنولوجية إلى أنماط جديدة من التفكير الحضري والإدارة اللوجستية.