تصريحات رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، روحي فتوح، تعكس نداءً أخيرًا محفوفًا باليأس والألم، موجّهًا إلى العالم أمام مشهد لا يكاد يجد توصيفًا أقل من “الإبادة الجماعية” التي تجري بحق سكان قطاع غزة. في بيانه الأخير، والذي نُقل عن وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا”، يبرز فتوح حجم الكارثة الإنسانية التي لم تعد مجرد أزمة حرب أو صراع سياسي، بل انزلقت إلى مستوى الجريمة المنظمة ضد الإنسانية.
الكمائن الإنسانية
يتحدث فتوح بلغة مباشرة ومشحونة، تصف الواقع في غزة بأنه بيئة موت مكتملة الأركان، حيث يتحوّل كل ما في الحياة إلى أداة للفناء: من الصواريخ المنهمرة من السماء إلى المجاعة التي تجتاح الأرض، وصولًا إلى ما أسماه بـ”الكمائن الإنسانية”، في إشارة إلى مواقع توزيع المساعدات التي باتت بمثابة شَرَك قاتل للمدنيين الجائعين. هذا التوصيف يُدين بشكل مباشر ما يرى أنه سلوك ممنهج من قبل الاحتلال الإسرائيلي، يستهدف تدمير كل مقومات الحياة في القطاع، بما فيها البنية الصحية التي باتت على شفا الانهيار التام.
في هذا السياق، تأتي مطالبات المجلس الوطني الفلسطيني كمحاولة لفرض ضغط أخلاقي وقانوني على المجتمع الدولي، لحثه على التحرك في ظل عجز سياسي تام من قبل المنظمات الدولية، وعجز فعلي عن فرض قواعد القانون الدولي الإنساني. يطالب فتوح بتوفير ممرات إنسانية آمنة وملزمة دوليًا لإدخال الوقود والإمدادات الطبية، وهي خطوة ضرورية لإنقاذ النظام الصحي المتداعي، ولا سيما في ظل سياسة “التقطير المتعمد” للوقود التي يُمارسها الاحتلال، والتي تهدف إلى شل قدرة المستشفيات على العمل.
فرض رقابة على الانتهاكات
كما يضع البيان المجتمع الدولي أمام مسؤولية التحقيق في الانتهاكات الجسيمة بحق الطواقم الطبية والمنشآت الصحية، مطالبًا بلجنة تحقيق دولية تحت إشراف هيئات محايدة. هذا المطلب يشير إلى مسار دبلوماسي قد تلجأ إليه السلطة الفلسطينية عبر تقديم شكاوى رسمية للمحكمة الجنائية الدولية، أو المطالبة بعقد جلسات طارئة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
السلطة الفلسطينية، من جانبها، تدرك أن أدواتها السياسية محدودة أمام قوة الاحتلال والدعم الدولي الذي يحظى به، إلا أنها تُراهن على توثيق الجرائم، وتكثيف الجهود الدبلوماسية لحشد الرأي العام العالمي، واستنهاض المؤسسات الحقوقية والقانونية. وقد برزت في الأشهر الماضية تحركات باتجاه عدد من العواصم الأوروبية، بالإضافة إلى المشاركة في المنتديات القانونية الدولية، بهدف الدفع نحو اتخاذ إجراءات عقابية أو فرض رقابة على الانتهاكات.
سينتصر القانون والعدالة؟
الرسالة التي يحملها المجلس الوطني الفلسطيني للعالم، تتجاوز المطالب الإنسانية العاجلة، لتصل إلى سؤال وجودي: هل سينتصر القانون والعدالة، أم ستسقط القيم الإنسانية في غزة؟ وهو تساؤل يعكس بوضوح ما تراه القيادة الفلسطينية من أن العالم على مفترق طرق، إما أن يستجيب بقرارات وإجراءات فاعلة، أو يتحول إلى شريك في الجريمة بالصمت والتقاعس.
في هذا السياق، تسعى السلطة الفلسطينية لتثبيت مسار دبلوماسي طويل المدى يستند إلى القانون الدولي، ويضع الانتهاكات في سياقها القانوني كمقدمة لمساءلة دولية، بالتوازي مع الضغط من خلال حلفائها العرب والأوروبيين، والدفع نحو عقد مؤتمر دولي أو تدخل إنساني منظم عبر الأمم المتحدة.
ما تريده القيادة الفلسطينية اليوم لا يقتصر على وقف مؤقت لإطلاق النار، بل تغيير جذري في منهج التعامل الدولي مع القضية الفلسطينية، يُعيد تعريف مفاهيم العدالة وحقوق الإنسان، في ضوء ما يجري في غزة من جرائم مروعة تُرتكب أمام أعين العالم.