عشية احتضان العاصمة الأنجولية لواندا مباحثات سلام مباشرة تجمع حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية وحركة 23 مارس المتمردة؛ فرَض الاتحاد الأوروبي عقوبات على كبار قادة “التمرد” إلى جانب مسؤولين كبار من رواندا المجاورة التي تُثار حولها اتهامات بدعم متمردي شرق الكونغو.
كان من المفترَض أن تستضيف لواندا، محادثات مباشرة توسَّط فيها الرئيس الأنجولي جواو لورينسو بتفويض من الاتحاد الإفريقي؛ تهدف إلى التوصل إلى تفاهمات بين كينشاسا وحركة 23 مارس؛ بَيْد أنّ العقوبات الأوروبية دفعت المتمردين إلى الانسحاب قبل ساعات من المحادثات المرتقبة.
إن إعلان العقوبات الأوروبية قبل ساعات من انطلاق مباحثات لواندا يثير تساؤلات حول دلالات هذا التزامن وأبعاده، خاصةً أنه استبق مفاوضات مباشرة هي الأولى من نوعها تجمع الحكومة والمتمردين لحل الصراع الأهلي في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
جدير بالذكر أنه عقب فشل مباحثات لواندا؛ اتفق الرئيسان الرواندي بول كاجامي والكونغولي فيليكس تشيسيكيدي، على عقد لقاء مباشر بالدوحة، برعاية قطرية، مع التزام جميع الأطراف بوقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار.
خلفية الأزمة ومستجداتها:
تشكلت حركة 23 مارس، من متمردي إثنية التوتسي الكونغوليين، وتُعدّ واحدة من بين أكثر من 120 جماعة مسلحة تنشط في المنطقة، وبشكل رئيسي في شرق الكونغو، المنطقة الغنية بالمعادن، وقد استمدت اسمها من اتفاق السلام المُوقَّع في 23 مارس 2009م بين سلفها “المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب”، وحكومة كينشاسا.
وخرجت الحركة إلى النور عام 2012م بدعوى “مظالم تتعلق بتنفيذ هذا الاتفاق”، وظلت نشطة حتى هزيمتها أواخر عام 2013م، ومع ذلك، أُعيد إحياؤها -بعد نحو عقد من الهدوء النسبي- أواخر عام 2021م، وما زالت تعمل في المنطقة؛ حيث تشتبك بانتظام مع الجيش الكونغولي وجماعات مسلحة أخرى.
وتعود مستجدات الصراع الراهن إلى صيف 2022م، حين سيطرت الحركة على مساحات شاسعة في مقاطعة شمال كيفو، وتقدَّمت نحو عاصمتها جوما، مع ارتفاع وتيرة عسكرة المنطقة، ودخول بلدان مجاورة على خط الأزمة.
وفي موازاة ذلك، تصاعدت التوترات بين كينشاسا وكيجالي؛ إذ لازمت الحكومة الكونغولية اتهامها لرواندا بدعم المتمردين، في وقتٍ دعم فيه محققو الأمم المتحدة هذا الاتهام مع نفي رواندي متكرر.
وسبق لأنجولا أن رعت هدنة تقضي بانسحاب حركة 23 مارس ووقف النار أواخر 2022م، فيما عُرف بـ”عملية لواندا”، ورغم أن حركة 23 مارس لم تكن طرفًا فيها، إلا أنها وافقت عليها دون أن تنحسب من الأراضي التي احتلتها، ولم تدم الهدنة طويلاً، بعد أن وقعت أعمال عسكرية بين رواندا والكونغو مطلع 2023م.
لغم أوروبي يفجر طاولة لواندا:
إلى حد بعيد، لا تبدو العقوبات الأوروبية شديدة الوطأة على رواندا أو حلفائها من المتمردين، بالنظر إلى عدد وحجم الأفراد والكيانات المشمولين فيها، في وقت لا يزال كاجامي حليفًا إستراتيجيًّا لا غنى عنه للمصالح الأوروبية، خاصةً في تسهيل الوصول إلى المعادن وحفظ السلام الإقليمي.
كما أن طبيعة الصراع الكونغولي -الذي أصبح يُشكّل في جوهره شبكة معقّدة من التحالفات والصراعات الإقليمية والدولية، تغذيها وتحفزها عولمة الموارد الطبيعية-؛ تحتم على البلدان الأوروبية –وفق السلوك المتعارف عنها- ترجيح كفة مصالحها على حساب مبادئ حقوق الإنسان.
على سبيل الاستشهاد، لم تقترب العقوبات من مذكرة التفاهم الموقعة بين الاتحاد الأوروبي ورواندا في فبراير 2024م، المتعلقة بالمواد الخام والمعادن الحيوية، بل اكتفى قادة الاتحاد بـ”التلويح بمراجعتها”. وهذه المذكرة تنص على التعاون الوثيق بين الطرفين، وتعكس تعزيز شراكتهما لتحقيق تكامل أكبر في سلاسل قيمة المواد الخام.
هذا التعاون يأتي على الرغم من أن معظم المواد الخام الحيوية تقع شرق الكونغو الديمقراطية، ويُعتقد أن رواندا تصدر مواد خام ذات منشأ كونغولي؛ حيث تستفيد 23 مارس المدعومة من رواندا من عمليات الاستخراج غير المشروعة، ما يدعم الفكرة القائلة بأن تحقيق السلام في الكونغو الديمقراطية يرتبط بإنهاء عمليات التعدين غير القانوني.
وبالنظر إلى اعتماد الاقتصاد الرواندي على تصدير المعادن، لا سيما الكولتان والذهب، فإن أيّ توتر في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي قد يدفع كيجالي إلى التقارب مع منافسين آخرين، أقل التزامًا بقضايا حقوق الإنسان.
تشير العقوبات الأوروبية المفروضة على رواندا وحركة 23 مارس إلى أنها تستهدف وقف تجارة المعادن غير المشروعة في شرق الكونغو، والتي يُعتقَد أنها تُسهم في تزايد وتيرة الصراع. ومع ذلك؛ فإن توقيت صدورها -عشية انطلاق مباحثات سلام هي الأولى من نوعها، في لواندا-، تحمل الكثير من علامات الاستفهام، خاصة وأن كيجالي أصبحت في وضع أفضل في مواجهة العقوبات الغربية، التي دفعتها إلى قطع دعمها لمتمردي 23 مارس عام 2013م.
علاوة على ذلك، تعكس هذه العقوبات اعترافًا أوروبيًّا مباشرًا بدور المكاسب التجارية من معادن الكونغو الديمقراطية في تورط رواندا في الصراع، مما يُعزّز الشكوك حول نية أوروبا تقويض مباحثات لواندا للسلام قبل أن تبدأ، ويبدو أن هذه العقوبات، رغم إعلانها لن تؤثر بشكل جوهري على المصالح الرواندية أو الغربية في المنطقة، ما يسمح بمواصلة الاستثمار غير المشروع في معادن الكونغو على حساب دماء مواطنيه.
وفي الأخير، رغم إعلان تحالف المتمردين انسحابه من مباحثات لواندا، لا تزال هناك بادرة أمل في احتواء الصراع الأهلي والإقليمي في شرق الكونغو، يُعزّز ذلك الوساطة القطرية بين كاجامي وتشيسيكيدي، وتراجع كينشاسا عن موقفها السابق المتشدد برفض التفاوض المباشر مع حركة 23 مارس، بعدما كانت تصف هذه المحادثات مع الحركة التي تعتبرها “إرهابية” بأنها “خط أحمر”، وقد يُسهم هذا التحول في وضع حد لمعاناة المدنيين جراء استمرار الصراع، وتهدئة التوترات الإقليمية المتصاعدة منذ عدة أشهر.