تعيش إسرائيل واحدة من أكثر لحظاتها السياسية هشاشة منذ عقود، حيث تتسارع المؤشرات نحو انهيار حكومي داخلي واحتمالية الذهاب لانتخابات مبكرة. ما يحدث اليوم لا يمكن فصله عن حرب غزة، لكنها ليست السبب الوحيد، بل الكاشف الأوضح لعمق التصدع السياسي والاجتماعي داخل إسرائيل. هذه الحرب، التي بدأت كحملة عسكرية عدوانية، تحولت إلى مرآة مكشوفة لانقسامات كامنة بين التيارات السياسية والدينية، والأولويات المتناقضة التي تدير بها إسرائيل شؤونها الداخلية والخارجية.
انفجار ملف الحريديم
الخلاف حول قانون إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية مثّل نقطة الانفجار الأخيرة، لكنه في الحقيقة يعكس صراعاً أكبر بين إسرائيل العلمانية وإسرائيل الدينية. الأحزاب الحريدية، التي ضمنت دعمها لحكومة نتنياهو مقابل امتيازات دينية وتشريعية، باتت تشعر بأن الحكومة لم تعد قادرة على تلبية مطالبها في ظل ضغط شعبي متزايد وتردٍ أمني واقتصادي غير مسبوق. قرار المرجعيات الدينية الحريدية بدعم قانون حل الكنيست يعني أن “عقد المقايضة” الذي حافظ على تماسك الائتلاف بدأ يتآكل.
أما حرب غزة، فهي الشرارة التي فجّرت التناقضات. نتنياهو كان يراهن على أن الحرب ستمنحه غطاءً شعبياً وتماسكاً ائتلافياً أطول، ولكن العكس حدث. فشل الأهداف المعلنة، وعدم القدرة على تحقيق “نصر عسكري واضح”، واستمرار سقوط القتلى، وتضاؤل ثقة الجمهور في القيادة السياسية والعسكرية، كلّها عمّقت من الغضب الشعبي، بل وانتقلت إلى داخل المؤسسة السياسية نفسها.
نتنياهو على حافة الهاوية
الأحزاب اليمينية المتطرفة، مثل حزب سموتريتش وبن غفير، تمارس ابتزازاً علنياً لحكومة نتنياهو؛ إذ تعارض بشراسة أي صفقة جزئية لوقف إطلاق النار أو تبادل الأسرى، لأنها تعتبر الحرب فرصة لتطبيق أجنداتها الأيديولوجية القائمة على “التهجير والتطهير”. في المقابل، هناك تيارات أخرى – بعضها داخل اليمين نفسه – ترى أن استمرار الحرب بلا أفق سيؤدي إلى انفجار داخلي أشد خطراً.
من جهة أخرى، يواصل نتنياهو اللعب على حافة الهاوية، مستغلاً ملف الأسرى والعداء لغزة كورقة انتخابية، ليس فقط للبقاء في الحكم، بل للهروب من ملفاته القضائية. استجوابه من قبل النيابة العامة هذا الأسبوع يأتي في لحظة سياسية دقيقة، وتزامنها مع تفكك الائتلاف يخلق انطباعاً أن الرجل لم يعد يملك إلا الحرب كأداة وحيدة لإبقاء الجميع في حالة استنفار والتفاف.
اهتزاز بنية المشروع السياسي الإسرائيلي
كل هذا يعكس أن ما يحدث داخل إسرائيل ليس مجرد أزمة حكومة، بل هو اهتزاز في بنية المشروع السياسي الإسرائيلي نفسه، الذي لطالما حاول التوفيق قسرياً بين الدين والدولة، الجيش والديمقراطية، الأمن والاحتلال. ومع كل حرب على غزة، تظهر هذه التناقضات بشكل أكثر وضوحاً، ولكن هذه المرة يبدو أن قدرة النظام على امتصاص التناقضات آخذة بالتآكل.
اللافت أن كل هذا الانقسام لا يصبّ لصالح إنهاء الحرب، بل العكس؛ فكل طرف يريد استثمار استمرارها لصالح أهدافه السياسية والدينية، ما يعني أن غزة تدفع ثمناً مضاعفاً: مرة بسبب العدوان المباشر، ومرة أخرى لأنها باتت “ساحة الانتخابات الإسرائيلية”.