جهود السلطة الفلسطينية لإحياء حل الدولتين في الوقت الراهن تبدو محاولة لتثبيت حق تاريخي يتآكل مع الزمن والدماء والخرائط المتغيرة. فبينما تواصل إسرائيل قصفها لقطاع غزة، وتسارع في ضم أراضٍ في الضفة الغربية وتكثيف الاستيطان، تقف السلطة أمام واقع صعب يتطلب منها العمل على إعادة إحياء فكرة الدولة الفلسطينية، في وقت تبتعد فيه الأرض والظروف عن هذا الحل أكثر من أي وقت مضى.
الحق التاريخي
السلطة الفلسطينية، بقيادة الرئيس محمود عباس، تعلن تمسكها بحل الدولتين، مستندة إلى “الحق التاريخي” للشعب الفلسطيني، وإلى ما تسميه “إجماعاً دولياً”، إلا أن هذا التمسك يبدو في نظر الكثيرين نوعاً من الإيمان الرمزي، أكثر منه استراتيجية واقعية قابلة للتطبيق الفوري. عباس، في ظل حرب غزّة الأخيرة، عاد ليتحدث عن حل الدولتين وكأنه يحاول التذكير بأن “الحلم لم يمت”، رغم أن المعطيات السياسية والجغرافية تشير إلى العكس تماماً.
تتحدى السلطة الإسرائيلية واقعاً فرضه نتنياهو ومعسكره الذي يعلن صراحة أن الدولة الفلسطينية مجرد “مزحة”. بل إن سياسات الحكومة الإسرائيلية الحالية، من عزل غزة وتكريس الانقسام، إلى التسريع في ضم الضفة وتفكيك أي سلطة فلسطينية مستقلة، تهدف بشكل مباشر إلى قتل فكرة الدولة في مهدها. وعلى الرغم من ذلك، لا تزال السلطة تراهن على إمكانية تحشيد دعم دولي، عربي وغربي، يمكن أن يضغط على إسرائيل للعودة إلى طاولة المفاوضات.
الانقسام الفلسطيني
الخطاب الفلسطيني الرسمي يسعى إلى الاستفادة من موجة الغضب الدولية المتزايدة على إسرائيل بسبب حجم الدمار في غزة، وخصوصاً بعد مجازر استهدفت المدنيين وموظفي منظمات إغاثية، لكن هذا التعاطف لم يتحول حتى الآن إلى قرارات ملزمة أو ضغط سياسي فعّال. التناقض الصارخ بين حجم الكارثة الإنسانية والدعم السياسي الباهت من المجتمع الدولي يُضعف موقف السلطة ويجعل جهودها أشبه بصوت في العراء.
إحدى العقبات الأساسية أيضاً تتمثل في الانقسام الفلسطيني نفسه. فالسلطة، وهي تحاول استعادة موقعها كممثل شرعي ووحيد للفلسطينيين، تواجه واقعاً ميدانياً مختلفاً تماماً، ورغم ذلك تحاول من جانبها خوض معركة الشرعية في المحافل الدولية.
الموقف الأميركي والأوروبي، رغم بيانات الدعم العلنية لفكرة الدولتين، يبقى ضعيف الأثر، بسبب الدعم غير المشروط الذي تحظى به إسرائيل سياسياً وعسكرياً. ورغم بعض الأصوات التي ارتفعت داخل الغرب للمطالبة بـ”خطط اليوم التالي” في غزة تشمل السلطة الفلسطينية، إلا أن غياب الإرادة الفعلية للضغط على إسرائيل يفرغ هذه التصريحات من مضمونها.
معركة وجود سياسي
السلطة الفلسطينية تخوض معركة وجود سياسي في بيئة فقدت التوازن. وهي تحاول من خلال إعادة طرح حل الدولتين أن تُبقي القضية الفلسطينية حيّة سياسياً في وقت تحاول فيه إسرائيل اختصار الصراع إلى مسألة أمنية بحتة. التحدي الأكبر أمامها ليس فقط الرفض الإسرائيلي، بل أيضاً في كيفية إعادة بناء وحدة فلسطينية داخلية، واستعادة الثقة الشعبية، وحشد دعم دولي حقيقي يتحول من الشعارات إلى أفعال.
تبقى مساعيها حالياً جزءاً من محاولة لفرض رواية سياسية مضادة في وجه مشروع صهيوني يسعى إلى حسم الصراع بالقوة، لا بالحلول، وإلى طمس فكرة الدولة الفلسطينية، لا التفاوض على حدودها. وبين هذه الروايات المتضادة، لا تزال فلسطين تحاول أن تبقى حاضرة.