في خطوة جديدة تعكس طبيعة الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، بدأت إسرائيل في إنشاء ما أسمته “المنطقة الإنسانية” قرب الحدود مع مصر، تحديدًا بمحور فيلادلفيا في رفح. هذه الخطوة التي تروج لها إسرائيل على أنها مبادرة لحماية المدنيين، يُنظر إليها من قبل غالبية الفلسطينيين كمحاولة مموهة لفرض تهجير قسري على سكان القطاع، وتحويل منطقة الحدود إلى ما يشبه السجن الجماعي المفتوح.
مناطق نزوح طارئة
الدلالة الأبرز لإنشاء هذه المنطقة تكمن في سعي إسرائيل لإعادة هندسة المشهد السكاني والجغرافي في غزة. إنشاء منطقة مخصصة للنازحين قرب الحدود المصرية، بعيدًا عن المناطق الحضرية الرئيسية، يعني عمليًا إخراج أعداد كبيرة من السكان من وسط وشمال القطاع وتجميعهم في رقعة جغرافية ضيقة خاضعة لمراقبة مشددة. بهذا الشكل، يتم تحييد كتلة سكانية ضخمة عن مساحات المواجهة المستقبلية، وإضعاف الوجود الفلسطيني في المناطق الأكثر مركزية، مما يسهل على إسرائيل التحكم بالوضع الأمني والسياسي لاحقًا.
المفارقة أن تسمية هذه المنطقة بـ”الإنسانية” لا تعكس واقع الحال. فالخطط المعلنة لا تتحدث عن توفير مقومات حياة كريمة، بل عن مناطق نزوح طارئة تفتقر لأدنى مستويات الخدمات الصحية والتعليمية والمعيشية، مما يجعلها في نظر الفلسطينيين سجونا مفتوحة أكثر من كونها ملاجئ آمنة. هذا الإحساس العام بالتهجير المقنع يشكل مصدر القلق الأكبر لدى الغزيين، الذين يخشون أن يتحول التهجير المؤقت إلى واقع دائم، خاصة أن تجارب الماضي مليئة بوقائع النزوح الطويل غير القابل للعكس.
شروط إسرائيلية مجحفة
الشعور بالخوف يتضاعف مع تهديد الجيش الإسرائيلي بتوسيع عملياته العسكرية في حال فشل مفاوضات القاهرة، رغم استمرار الضربات الجوية وسقوط المزيد من الضحايا. هذا التصعيد يطرح سيناريوهين مرعبين لسكان غزة: إما القبول بالعيش في “المنطقة الإنسانية” بشروط إسرائيلية مجحفة، أو مواجهة عمليات عسكرية أوسع قد تجبرهم على الفرار الجماعي نحو الحدود مع مصر، في ظل انسداد أفق الخروج إلى أي مكان آخر.
من جهة أخرى، تأتي رؤية حماس الجديدة التي طرحتها في القاهرة، والتي تضمنت استعدادات غير مسبوقة للنقاش حول مستقبل السلاح وفك الارتباط بالحكم، لتفتح نافذة صغيرة للحل، لكنها أيضًا توحي بأن هناك قناعة متزايدة بأن الحفاظ على الوجود الفلسطيني في غزة بات أولوية تتطلب تنازلات سياسية كبيرة.
معركة السيطرة على الأرض
مع ذلك، يبقى الخوف مسيطرًا على السكان، لأن التجارب الميدانية أثبتت أن أي تحرك إسرائيلي منظم على الأرض غالبًا ما يتجاوز نوايا الحلول المعلنة نحو فرض وقائع تخدم المصالح الإسرائيلية بعيدة المدى.
في النهاية، إنشاء “المنطقة الإنسانية” لا يبدو كجزء من خطة إنقاذ للسكان بقدر ما يمثل جزءًا من معركة السيطرة على الأرض والهوية في غزة. القلق الفلسطيني مشروع بل هو تعبير عن وعي جماعي بالتاريخ الطويل للنكبات والنزوح، ورفض لإعادة إنتاج مآسي اللجوء والتهجير تحت غطاء إنساني زائف.