التجويع الممنهج الذي يعانيه قطاع غزة اليوم لا يُعدّ مجرد نتيجة عرضية للحرب، بل يرقى إلى أن يكون أحد أدوات القتل الجماعي المستخدمة ضد السكان المدنيين. وتزداد خطورة هذه السياسة مع طول أمد العدوان الإسرائيلي على القطاع، والانهيار الكامل في البنية التحتية الإنسانية والطبية، وغياب أي ممرات آمنة أو إمدادات مستمرة للغذاء والدواء.
سياسة التجويع كسلاح
في السياقات العسكرية، يُعد استخدام الحصار والتجويع ضد المدنيين إحدى أدوات العقاب الجماعي المحظورة بموجب القانون الدولي، وتحديدًا اتفاقيات جنيف. ومع ذلك، فإن غزة تمثل اليوم مسرحًا حيًّا لتجريب هذه السياسات على نطاق واسع، حيث يعيش أكثر من مليوني نسمة في حصار خانق، قُطعت فيه إمدادات الغذاء والوقود والكهرباء والمياه، مع منع وصول المساعدات الإنسانية في كثير من الأحيان أو تقنينها بشكل لا يلبي الحد الأدنى من الاحتياجات.
سياسة التجويع ليست جديدة، لكنها في هذا العدوان اتخذت شكلاً أكثر قسوة وهمجية، حيث ترافق التجويع مع القصف اليومي لمنازل المدنيين، وتدمير الأسواق المحلية والمخازن، واستهداف الشاحنات الغذائية وحتى طوابير توزيع الخبز والماء، ما أدى إلى كارثة إنسانية شاملة.
مخاطر متعددة الأوجه
تظهر مخاطر التجويع في غزة على مستويات متعددة، أخطرها على الإطلاق ما يُعرف بـ”الانهيار الغذائي الكامل”، حيث لا يتمكن السكان من تأمين وجبة واحدة يوميًا، خاصة في مناطق الجنوب والوسط التي تضررت فيها مخازن الإغاثة أو انقطعت عنها الإمدادات. هذا الانهيار يضرب بشكل مباشر الأطفال، والنساء الحوامل، والمصابين، وكبار السن، وهم الأكثر هشاشة في أي مجتمع.
التجويع يخلق أيضًا بيئة خصبة للأمراض، نتيجة لنقص المياه النظيفة وانعدام النظافة، ما يؤدي إلى انتشار أمراض الجهاز الهضمي، ونقص المناعة، وموجات من سوء التغذية الحاد. وفي حال استمرار الوضع الحالي، فإن غزة قد تشهد في الأسابيع القادمة ما يمكن وصفه بـ”مجاعة صامتة”، لا تقل فتكًا عن القنابل.
تداعيات نفسية واجتماعية
التجويع لا يقتل الجسد فقط، بل يُحدث انهيارًا نفسيًا عميقًا في صفوف المدنيين. الشعور بالعجز، وانعدام الأمان الغذائي، والخوف من المستقبل، عوامل تدفع المجتمعات نحو التفكك، وتخلق أزمات اجتماعية على المدى البعيد. وقد يؤدي هذا الوضع إلى انهيار نظام الأسرة، وزيادة في حالات الانتحار أو الهروب، أو حتى الاتجار بالبشر في محاولات يائسة للهروب من الموت البطيء.
رغم التحذيرات المتكررة من منظمات دولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، إلا أن المجتمع الدولي لا يزال عاجزًا أو متواطئًا بالصمت تجاه جريمة التجويع الجماعي هذه. عدم فتح ممرات إنسانية آمنة، أو الضغط الحقيقي على الاحتلال الإسرائيلي لوقف الحصار، يجعل هذه الدول شريكة في الجريمة بشكل غير مباشر.
مسؤولية دولية غائبة
ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل هو استخدام منهجي للتجويع كسلاح حرب في وجه المدنيين. هذا السلاح يتجاوز حدود القتل المباشر، ليصل إلى تدمير النسيج الاجتماعي والنفسي لمجتمع بأكمله، وسط صمت دولي مخزٍ. وإذا لم يُكسر هذا الحصار قريبًا، فإن المجاعة ستتحول من خطر قادم إلى واقع قاتم يلتهم ما تبقى من حياة في غزة.