بين التصعيد العسكري الأميركي المكثف، وردود الفعل الحوثية التي تتخطى الحدود اليمنية، يبدو أن الساحة اليمنية دخلت مرحلة جديدة أكثر خطورة وتعقيدًا، تهدّد ليس فقط استقرار البلاد بل ممرات التجارة العالمية بأسرها. فقد شهد شهر واحد فقط أكثر من 300 غارة أميركية على أهداف داخل اليمن، في تصعيد يوصف بالأعنف منذ بدء الحرب قبل عقد. وفي المقابل، أعلن الحوثيون تبنيهم هجمات ضد إسرائيل وحاملتَي طائرات أميركيتين، مؤكدين أن القادم “أكثر إيلامًا”.
تصعيد أميركي بمنطق العقاب وليس الردع
الهجوم الأميركي الواسع لم يكن مجرد رد تقليدي على استهداف الملاحة في البحر الأحمر، بل تحوّل إلى عملية عقابية كاملة الأركان. تكثيف الضربات، وتوسيع نطاق الأهداف لتشمل موانئ ومرافق مدنية كما في ميناء رأس عيسى، حيث أعلنت “أنصار الله” مقتل 74 شخصًا، يشير إلى تغيّر جذري في السياسة الأميركية. واشنطن، كما يبدو، تخلّت عن نهج “الضبط الحذر”، وانتقلت إلى سياسة فرض الكلفة العالية، على أمل كسر إرادة الهجوم الحوثي.
لكن هذا النهج، وفق المراقبين، قد يؤدي إلى نتائج عكسية، لا سيما أن الجماعة الحوثية لا تستند فقط إلى خطاب تعبوي داخلي، بل تضع نفسها ضمن منظومة إقليمية أوسع ترى في التصعيد الأميركي فرصة لتعزيز خطاب “المواجهة المباشرة” مع واشنطن وتل أبيب.
الحوثيون: تثبيت معادلة الرد الاستراتيجي
ما يثير الانتباه هو أن الحوثيين، رغم الضربات المكثفة، لم يُظهروا أي علامات تراجع. بل على العكس، جاءت رسائلهم الميدانية والتصريحات الرسمية لتؤكد أن الرد سيكون مستمرًا، وموجهًا إلى “مراكز الثقل” الأميركية والإسرائيلية في البحر. في العقل الاستراتيجي للجماعة، فإن المعركة لم تعد معركة نفوذ بحري أو حماية لممر مائي، بل تحوّلت إلى ساحة اختبار كبرى لعقيدة “الردع الشعبي” الذي تنادي به الجماعة ومحورها الإقليمي.
الحوثيون اليوم يتصرفون كقوة عابرة للحدود، وهذا ما يفسر استهدافهم لحاملات طائرات أميركية في مشهد غير مسبوق في تاريخ المنطقة. مثل هذه الهجمات، حتى وإن لم تحدث ضررًا عسكريًا مباشرًا، تنطوي على قيمة رمزية عالية، وتكسر احتكار “القوة الاستباقية” الذي طالما امتلكته واشنطن.
ساحة بلا سيادة… ولا أحد يملك مفتاح التهدئة
اليمن، في ظل هذا التصعيد، يبدو وكأنه فقد آخر مظاهر السيادة. لا السلطة الشرعية قادرة على التأثير في الميدان، ولا المجلس الانتقالي الجنوبي خارج دائرة التهميش، فيما تحولت مناطق سيطرة الحوثيين إلى مسرح حر للعمليات الدولية. التفاعل الإقليمي – وتحديدًا الموقف السعودي – يبدو باهتًا حتى الآن، مع ميل واضح نحو النأي بالنفس، في وقت لم تعد فيه حدود الحرب قابلة للحصر داخل الأراضي اليمنية فقط.
وفي غياب أي مسار تفاوضي واضح أو تدخل أممي جاد، يظل التنبؤ بما سيحدث خلال الأسابيع القادمة محفوفًا بالمخاطر. لكن المؤكد أن اليمن لم يعد هامشًا في خارطة النزاعات، بل بات عقدة مركزية في معادلة الشرق الأوسط الجديد، ومعها تتحول كل غارة إلى إعلان ضمني أن “اليمن بات رسميًا جزءًا من الاشتباك الدولي المفتوح”.
بين فوضى البحر وحمم السماء… اليمنيون أول الضحايا
وسط هذا التبدّل الدراماتيكي في المشهد، يظل الإنسان اليمني الحلقة الأضعف في معادلة لا ترحمه. فأعداد القتلى تتزايد، والبنى التحتية تُدمَّر، ولا وجود لأي أفق سياسي يلوح في الأفق. إنها مرحلة ما بعد الحرب التقليدية، مرحلة تتداخل فيها الحروب السيبرانية والبحرية والجوية، ولا يبدو أن أحدًا قادر على ضبط وتيرتها.
ربما لم تبدأ الحرب العالمية، لكن في اليمن، يبدو أنها دخلت فصلها الأخطر.