تشهد التطورات المتسارعة في إسرائيل، كما يصفها تقرير صحيفة جيروزاليم بوست بقلم ديفيد بن-باسات، أن البلاد تشهد لحظة محورية غير مسبوقة قد تعيد تعريف هويتها السياسية والاجتماعية بالكامل. إسرائيل، التي طالما قدّمت نفسها للعالم باعتبارها “ديمقراطية مستقرة وسط شرق مضطرب”، تبدو اليوم وكأنها تقف على حافة اضطراب داخلي حقيقي، ليس بفعل عدوان خارجي، بل نتيجة تصدعات داخلية تنذر بإعادة تشكيل بنيتها السياسية من الداخل.
دعوات للعصيان المدني
ما يحدث اليوم في إسرائيل ليس مجرد انقسام سياسي عابر بين اليمين واليسار، بل تحوّل جذري في تصور المجتمع لذاته. تتعمّق الخلافات إلى حد باتت فيه الأطراف المختلفة ترى في وجود بعضها تهديدًا وجوديًا مباشرًا، لا يمكن التعايش معه. التحوّل في المزاج العام يتجاوز التوترات التقليدية المعروفة بين الحريديم والعلمانيين، أو بين العرب واليهود، إلى تفكك فعلي في ما كان يُعتبر “الإجماع الإسرائيلي”، وهو المصطلح الذي استخدم لعقود لوصف التماسك النسبي داخل المجتمع رغم تنوعه.
الاحتجاجات، ورفض الخدمة العسكرية، وقطع الطرق، وتكثيف الدعوات للعصيان المدني، كلها لم تعد تعبيرات شعبية طارئة، بل باتت أدوات سياسية نشطة في معركة هوية. تفقد الحكومة تدريجيًا قدرتها على احتواء هذه التوترات، خاصة في ظل غياب الثقة المتزايد في مؤسسات الدولة، مثل المحكمة العليا، والجيش، وحتى الكنيست ذاته، الذي تحوّل في عيون كثير من الإسرائيليين إلى ساحة تصفية حسابات لا أكثر.
تراجع مكانة إسرائيل الدولية
في قلب هذا المشهد، يواجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ما يمكن اعتباره أخطر تحدٍ داخلي في تاريخه السياسي. لم يعد التهديد الرئيسي لبقائه يأتي من الخارج أو حتى من المعارضة البرلمانية التقليدية، بل من عمق المجتمع الإسرائيلي ذاته، ومن مؤسسات طالما اعتُبرت حصونه الداخلية، كالجيش، الذي بدأت تظهر فيه حالات رفض متزايدة للخدمة من قبل جنود الاحتياط. هذا الشكل من الرفض لا يُقرأ فقط كاحتجاج على استمرار الحرب في غزة، بل يُفهم أيضًا على أنه رفض سياسي للقيادة نفسها.
ما يزيد من خطورة المشهد هو أن نتنياهو لم يعد يملك نفس أدوات المناورة التي كان يبرع في استخدامها. فخطاب “الأمن القومي” لم يعد كافيًا لتوحيد الشارع، خاصة في ظل تزايد أعداد الرهائن في غزة، وتراجع مكانة إسرائيل الدولية، وعجز الحكومة عن تقديم حلول واضحة، سواء في الملف الأمني أو السياسي أو الاجتماعي. في المقابل، تُغذي شخصيات كإيهود باراك، عبر تصريحات نارية شبه انقلابية، المشهد الانقسامي، داعية إلى العصيان المدني، متّهمة الحكومة بأنها تنفذ انقلابًا ناعمًا على النظام الديمقراطي.
ساحات قتال تؤجج الانقسامات
أما احتمال وقوع انقلاب على نتنياهو، فحتى الآن يبقى محدودًا بمعايير الانقلابات الكلاسيكية، لكنه وارد في سياق تفكك التحالف الحاكم أو فقدانه للأغلبية نتيجة تصدعات داخل معسكر اليمين نفسه. استمرار الأزمات السياسية، الاقتصادية، والاجتماعية قد يدفع بعض حلفائه إلى مراجعة موقفهم، لا سيما في ظل الضغط الشعبي المتزايد، وإمكانية خروج الشارع في احتجاجات تتوسع من حيث الزخم والمطالب.
إسرائيل، كما يصورها المقال، لم تعد قادرة على التعايش مع التعددية كواقع، بل أصبحت تراه تهديدًا وجوديًا. الإعلام متورط في حالة استقطاب خطيرة، ومواقع التواصل الاجتماعي تحوّلت إلى ساحات قتال تؤجج الانقسامات لا تهدئها. حتى “القبائل الأربع” التي تحدث عنها الرئيس الأسبق رؤوفين ريفلين، أصبحت اليوم تعيش في فقاعات اجتماعية وثقافية مغلقة، بلا لغة مشتركة أو هدف جامع.
إسرائيل على أعتاب أزمة هوية
وفي هذا السياق، فإن دخول البلاد في حالة من العصيان المدني واسع النطاق ليس أمرًا بعيد المنال، خاصة إذا استمر التأزم الداخلي بالتوازي مع الحرب في غزة، وغياب أفق حقيقي للتسوية. العصيان قد لا يتخذ شكلًا شاملًا، لكنه قد يظهر في قطاعات حيوية مثل التعليم، والخدمة العسكرية، والخدمات العامة، ما يعني شللًا تدريجيًا في آليات الدولة.
يتّضح أن التماسك الاجتماعي في إسرائيل لم يعد أمرًا مفروغًا منه. ما كان يُدار ضمن حدود الخلافات الطبيعية بات الآن صراعًا صفريًا. وإذا لم تستطع القيادة السياسية إعادة ضبط البوصلة الوطنية، فإن إسرائيل قد تكون على أعتاب أزمة هوية حقيقية، تتجاوز نتنياهو، وتتحدى فكرة “الدولة الجامعة” نفسها.