في نهاية الأمر وبعد حرب على عدة جبهات تمكن الثنائي الأميركي – الإسرائيلي من تدمير الجزء الأكبر من مقومات وقدرات محور “وحدة الساحات” الذي اخترعه قائد “فيلق القدس” الراحل سليماني الذي قتله الأميركيون سنة 2020 في بغداد.
الخسارة فادحة بعد تدمير حركة “ح” في غزة و”الحزب” في لبنان، وإسقاط النظام السوري بعد 54 سنة بعدما شكل لأكثر من أربعة عقود الجسر الاستراتيجي لعبور نفوذ إيران إلى شرقي البحر الأبيض المتوسط، واليوم نشهد حجم وعنف وكثافة الضربات الأميركية على جماعة ذراع ايران في اليمن ما قد يؤدي إلى انهيار الجماعة في أكثر من منطقة.
في مرحلة سابقة كانت بعض القيادات الإيرانية تتفاخر بأن طهران باتت تحتل أربع عواصم عربية هي بغداد، دمشق، بيروت وصنعاء. وعندما نصّب “الحزب” الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية في تشرين الأول / أكتوبر 2016 صدرت صحيفة “كيهان” التابعة لمكتب المرشد الأعلى علي خامنئي بعنوان عريض “انتصار محور المقاومة”، للدلالة على أن وصول ميشال عون إلى الرئاسة هو من الناحية العملية استكمال للسيطرة الإيرانية بواسطة أهم الأذرع في المنطقة وانطلاقاً من لبنان الذي تحول مع الوقت إلى قاعدة أمنية وعسكرية متقدمة لـ”الحرس الثوري”.
وبالنسبة إلى حركة “ح” فقد تحولت شيئاً فشيئاً لتصبح بمثابة فصيل من الفصائل المرتبطة بطهران دون أن تصل إلى حال الفصائل العراقية المرتبطة أيديولوجياً ومالياً وأمنياً بها، لكن عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وأدت إلى مقتل أكثر من 1400 إسرائيلي واختطاف أكثر من مئتين في أقل من ست ساعات، غيرت مجرى تاريخ المنطقة حيث من المحتمل جداً أن يكشف لنا المستقبل عن قرار كبير اتخذ على مستوى إسرائيل والدولة الأميركية العميقة بقلب الطاولة على إيران في كل المنطقة، وذلك بعدما أدرك التحالف الأميركي – الإسرائيلي أنه ما عاد بالمكان التعايش مع المشروع الإيراني في المنطقة لاسيما في أعقاب تجاوزه كل الخطوط الحمراء بالنسبة إلى إسرائيل التي تلقت ضربة وجودية، كان من المستحيل التغافل عنها والاكتفاء بعملية عسكرية موضعية ضد “حركة ح” في قطاع غزة.
وجاء تورط “الحزب” في لبنان، وجماعة ذراع ايران في اليمن في ما سمي “حرب إسناد” لقطاع غزة، على قاعدة أن الفصيلين الإيرانيين، لا سيما الأول، أعلنا صراحة أن تورطهما محدود الأفق والأبعاد من أجل توضيح موقف إيراني مفاده أن الهدف ليس محاولة تدمير إسرائيل. وفعلاً حرص “الحزب” في المرحلة الأولى من الحرب ابتداء من 8 تشرين الأول / أكتوبر 2023 على المناوشة مع الجيش الإسرائيلي متجنباً الحرب الواسعة، غير أن إسرائيل ذهبت في اتجاه آخر، حيث أنها بدأت في خوض معركة متدرجة صعوداً على مستوى العنف والكثافة والأهداف. وحدها بقيت جماعة ذراع ايران في اليمن تنعم بهوامش سماح من الغرب الذي تعامل معها بكثير من الاعتدال في الردود التي كانت توجه شطرها بعد هجماتها في البحر الأحمر والممرات البحرية الدولية.
لم تنفع جميع محاولات “الحزب” لمنع تمدد الحرب لإقناع إسرائيل بعدم خوض حرب شاملة وتدميرية في لبنان لكسر أهم الأذرع الإيرانية في المنطقة. وبعد قتل معظم القادة العسكريين وزعيم الحزب نفسه بات واضحاً أن الهدف الأبعد للرد الإسرائيلي على عملية “طوفان الأقصى” وبالتفاهم مع الأميركيين أصبح تصفية النفوذ الإيراني وإنهاء هيمنته في المشرق العربي. من هنا الضربات الساحقة للولايات المتحدة على مناطق سيطرة ذراع ايران في اليمن، والضغوط الهائلة التي تمارسها واشنطن على الحكومة العراقية المرتبطة في مكان ما بالنفوذ الإيراني من أجل حل ميليشيات “الحشد الشعبي”، وفكفكة الارتباط بين طهران وبغداد، من خلال تحرير السلطة السياسية من نفوذ طهران.
لكن يبقى أن الضغوط الكبيرة الأخيرة تتركز على إيران نفسها بعد التلويح بتوجيه واشنطن ضربة استراتيجية في عمق الأراضي الإيرانية ضد المنشآت النووية، إذ تُجمع عواصم القرار الدولي على أن الهدف من البرنامج النووي الإيراني هو الوصول إلى إنتاج قنبلة نووية في أسرع وقت. وبعدما كانت استراتيجية الساحات تؤمّن حماية النظام الإيراني في العقود الثلاثة الماضية، باتت إيران ترى أن وحدها القنبلة النووية هي التي ستؤمّن للنظام بقاءه. فهل تنفّذ واشنطن تهديداتها وتدمّر البرنامج النووي الإيراني؟