بعد مرور أكثر من 12 عامًا على واحدة من أخطر الحوادث الدبلوماسية التي شهدتها تونس ما بعد الثورة، عادت قضية اقتحام السفارة الأميركية إلى الواجهة مجددًا، ولكن هذه المرة بأحكام أشد صرامة. فقد قضت محكمة الاستئناف بتونس العاصمة بالسجن النافذ لمدد طويلة على المتهمين، في خطوة فسّرها البعض بأنها تصحيح لمسار قضائي، واعتبرها آخرون محاولة لترميم العلاقات مع واشنطن.
تشديد العقوبات: من سنتين مؤجّلتين إلى أكثر من 8 سنوات نافذة
أعلنت محكمة الاستئناف، عن إصدار أحكام بالسجن النافذ مدتها 8 أعوام و3 أشهر ضد 20 متهمًا في قضية اقتحام السفارة الأميركية عام 2012.
وصرّح المتحدث الرسمي باسم المحكمة، الحبيب الطرخاني، أن الأحكام الجديدة تلغي الأحكام الابتدائية السابقة التي صدرت في 2013، والتي كانت قد قضت بسجن المتهمين عامين فقط مع تأجيل التنفيذ.
هذا التحول الكبير في طبيعة العقوبة يطرح تساؤلات حول الخلفيات القانونية والسياسية التي دفعت نحو مراجعة الملف بعد أكثر من عقد.
غضب أميركي سابق وانتقادات حادة للأحكام الأولى
رد الفعل الأميركي لم يكن غائبًا عن المشهد، فقد أعربت السفارة الأميركية في تونس، عام 2013، عن “انزعاجها الشديد” من الأحكام المخففة التي وصفتها بأنها لا تتناسب مع حجم الأضرار والعنف الذي وقع أثناء الهجوم على السفارة والمدرسة الأميركية الملحقة بها.
ذلك الهجوم، الذي وقع في 14 سبتمبر 2012، جاء في سياق احتجاجات واسعة شملت عدة دول عربية تنديدًا بفيلم مسيء للإسلام تم إنتاجه في الولايات المتحدة. الأحداث تطورت بشكل عنيف في تونس، حيث اقتحم مئات المتظاهرين مبنى السفارة والمدرسة، ما أدى إلى اشتباكات دامية مع قوات الأمن أسفرت عن مقتل 4 أشخاص وإصابة العشرات.
خسائر مادية ضخمة ومطالب بتعويضات
الهجوم لم يكن فقط دمويًا، بل ألحق أيضًا أضرارًا كبيرة بمرافق السفارة والمدرسة، وشملت الأضرار حرق سيارات وممتلكات وتخريب محتويات داخلية، وهو ما دفع الولايات المتحدة للمطالبة بتعويضات تجاوزت 18 مليون دولار.
وفي عام 2016، وبعد مفاوضات طويلة، وقّعت تونس والولايات المتحدة مذكرة تفاهم نصّت على تمليك الولايات المتحدة قطعة أرض تبلغ مساحتها 20 ألف متر مربع، قُدّر ثمنها بنحو 30 مليون دولار، كمساهمة من الحكومة التونسية في إصلاح ما تضرر.
يأتي هذا التشديد القضائي في وقت حساس داخليًا وخارجيًا لتونس. فمن ناحية، تسعى السلطات التونسية إلى تحسين صورتها في ملف العدالة ومحاربة الإفلات من العقاب، ومن ناحية أخرى، تعيد السلطات حساباتها في علاقاتها مع شركائها الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
ولا يمكن إغفال أن هذه الخطوة قد تكون أيضًا استجابة غير مباشرة لضغوط دبلوماسية، خاصة في ظل تراجع المؤشرات الاقتصادية في البلاد، واعتماد تونس على الدعم الخارجي في عدد من القطاعات الحيوية.
العدالة تأخذ مجراها.. ولكن بعد ماذا؟
القضية تُظهر أن العدالة، وإن تأخرت، قد تتحرك بفعل تغيّر الظروف والسياقات، سواء كانت داخلية أو خارجية. ومع أن الأحكام المشددة قد تُعيد بعضًا من هيبة القضاء التونسي في أعين الشركاء الدوليين، فإنها تفتح أيضًا الباب أمام تساؤلات بشأن استقلالية القرار القضائي ومدى تأثره بالمناخ السياسي والدبلوماسي.