تصريحات إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي، تكشف مرة أخرى الوجه الحقيقي لأكثر تيارات السياسة الإسرائيلية تطرفًا، ليس فقط في طروحاتها بل في استخدام لغة الإبادة كبرنامج سياسي. حين يدعو مسؤول حكومي علنًا، ومن على منابر إعلامية رسمية، إلى “تكثيف الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة بكل قوة”، فإننا لا نتحدث عن رأي متطرف على هامش المشهد السياسي، بل عن صوت رسمي يعبّر عن توجّه متأصل في شريحة حاكمة داخل الحكومة الإسرائيلية الحالية.
تدمير حماس
رفض بن غفير الصريح لمقترح وقف إطلاق النار، وتنديده بموافقة نتنياهو عليه، ليس مجرد خلاف تكتيكي، بل يعكس رؤية أيديولوجية تستند إلى منطق القوة المطلقة، وعدم الاعتراف بأي قيمة للحياة الفلسطينية. فالرجل لا يتحدث عن أمن إسرائيل ولا عن الرهائن، بل عن تدمير كامل لحركة «حماس» بغض النظر عن الثمن، والذي يشمل علنًا المدنيين والأطفال والنساء، تحت ستار “القضاء على الإرهاب”.
وفي مفارقة مؤلمة، يزعم بن غفير أنه “قلق على الجنود الإسرائيليين”، لكن دعوته للتصعيد لا تنم إلا عن رغبة في استمرار المعركة إلى ما لا نهاية، دون أي اعتبار لعواقبها، لا على الجنود الذين يزجّ بهم في حرب شوارع مدمّرة، ولا على المجتمع الإسرائيلي الذي يعيش على وقع الرهائن والأزمات السياسية.
من زاوية أخرى، فإن هجوم بن غفير على مقترح المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف يكشف تصدعًا داخل النخبة السياسية الإسرائيلية. ففي الوقت الذي تحاول فيه الإدارة الأميركية بناء إطار ولو مؤقت لوقف النار، يستغل بن غفير هذه الجهود لرفع شعبيته لدى التيار الديني المتطرف، وللضغط على نتنياهو من الداخل، مذكّراً إياه بأن التحالف الحكومي قائم على رضى هذه الأطراف المتطرفة، لا على القرارات المتزنة.
محو غزة من الخريطة
تصريحات بن غفير، إذا ما قورنت برد «حماس» المتعلق بوقف إطلاق النار، تُظهر أن التطرف لا يقتصر على الطرف الفلسطيني كما تسعى إسرائيل لتسويقه. فبينما قدمت «حماس» مقترحاً عملياً يتضمن الإفراج عن أسرى وإيقاف الحرب لمدة 60 يوماً، جاء الرفض الحقيقي من تل أبيب، على لسان مسؤول يطالب علناً بإبادة جماعية ويعارض حتى التفاوض، ما ينسف الأساس الأخلاقي الذي تحاول إسرائيل اختلاقه لتبرير استمرار عدوانها.
إن بن غفير لا يرفض فقط وقف إطلاق النار، بل يرفض أي تسوية، ويقدّم رؤية شمولية للحرب لا تنتهي إلا بزوال الطرف الآخر، وهي ذات الرؤية التي تقف على النقيض التام من كل المبادئ الإنسانية والقانون الدولي. ما يقوله لا يترك مجالاً للغموض: نحن أمام مشروع حرب مفتوحة طويلة، هدفها ليس أمن إسرائيل بل محو غزة من الخريطة.
خطاب عنصري فاشي في إسرائيل
ووسط كل هذا، يبدو المجتمع الدولي عاجزاً أو متواطئاً، حيث تُترك مثل هذه التصريحات تمرّ دون إدانة تُذكر، بينما يُحاسَب الطرف الفلسطيني على كل عبارة وموقف. فلو صدرت مثل هذه الدعوات بالإبادة من أي جهة عربية أو فلسطينية، لأشعلت العواصم الغربية نيران الغضب، وانهالت الإدانات والعقوبات، لكن بن غفير، بصفته وزيراً، يتحدث عن إبادة جماعية صريحة دون أن يُستدعى إلى لاهاي أو حتى يُوبّخ دبلوماسيًا.
لا شك أن تصريحات بن غفير تعرّي النظام السياسي الإسرائيلي وتفضح حجم الشرعية التي باتت تُمنح للخطاب العنصري والفاشي داخل دوائر الحكم. وهو ما يجعل من استمرار العدوان على غزة ليس فقط خيارًا عسكريًا، بل مشروعًا أيديولوجيًا متكاملاً لا يقبل التفاوض، ولا يهدف إلى الأمن بقدر ما يسعى إلى الإبادة، وهو بذلك أخطر تهديد ليس فقط لغزة، بل لفكرة السلام ذاتها.