منذ توليه منصب وزير الأمن القومي في إسرائيل، شكّل إيتمار بن غفير تجسيدًا حقيقيًا لصعود التيار الديني القومي المتطرف داخل المؤسسة الإسرائيلية، وأعاد تعريف دور السلطة التنفيذية ليس كحامٍ للحقوق، بل كأداة لإعادة تشكيل الواقع وفق رؤى أيديولوجية قائمة على الإقصاء والعنصرية الدينية.
منع الآذان في دور العبادة
ممارساته الأخيرة، المتمثلة في استدعاء قادة الشرطة وتوبيخهم على عدم منع الأذان في البلدات العربية داخل الخط الأخضر، ليست مجرد تجاوز إداري، بل تعدٍّ فجّ على حرية العبادة المكفولة دوليًا، وتدخل سياسي مباشر في العمل الشرطي يُفترض أنه مهني ومستقل. صراخه في وجه كبار الضباط، وقوله إنه عيّنهم لتنفيذ سياسته، يكشف بوضوح حجم السطوة التي يحاول فرضها على أجهزة إنفاذ القانون لتخدم أجندته العنصرية، لا سيادة القانون.
وصفه للأذان بـ”الضجيج” ليس مجرد رأي، بل هو تصريح عنصري يستهدف شعيرة إسلامية عميقة تمثل هوية جماعية لمجتمع بأكمله، وكأنّ وجود العرب في الداخل بات يُعامل كـ”ضوضاء مزعجة” ينبغي إسكاتها. إن فرض الغرامات على المساجد بذريعة “الضوضاء” ما هو إلا غطاء قانوني هش لمشروع سياسي يهدف لتقييد الحضور الإسلامي في الحيز العام، تمهيدًا لعزله ثقافيًا ودينيًا.
خرق القانون الدولي
اللافت في هذا المشهد، أن بن غفير يتصرف بطريقة تتعارض صراحة مع “وثيقة المبادئ” التي وقعها مع المستشارة القانونية للحكومة الإسرائيلية، والتي تمنعه من التدخل في القرارات التشغيلية للشرطة. لكنه يفعل ذلك جهارًا نهارًا، دون محاسبة، ما يثير تساؤلًا حتميًا: لماذا لا يُعاقب؟ ولماذا يُترك ليتمادى؟
الجواب يكمن في توازنات القوة داخل إسرائيل، والغطاء السياسي الذي يحظى به بن غفير من التحالف الحاكم. رغم خطورته، يُنظر إليه داخل أروقة اليمين المتطرف كصوت “أصيل” يعبر عن قلق وجودي من “الآخر العربي”، وبالتالي يُمنح مساحة أكبر من غيره لفرض أجندته تحت مسمى “حماية الهوية اليهودية للدولة”.
رغم أن ما يفعله بن غفير يُعدّ خرقًا واضحًا للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (العهد الدولي لعام 1966)، والذي يضمن حرية الدين والمعتقد، فإن عدم وجود محكمة دولية مختصة تملك صلاحيات تنفيذية تجاه الوزراء في الدول التي ليست طرفًا في بعض الاتفاقيات الدولية، مثل إسرائيل، يخلق فراغًا قانونيًا يسمح لمثل هؤلاء بالتنصل من العقاب.
مخطط التهويد
وفوق ذلك، فإن الدعم غير المشروط الذي تحظى به إسرائيل من بعض القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، يخلق درعًا سياسياً يحمي بن غفير من أي تبعات دولية. ما يُضاف إلى ذلك هو تواطؤ المجتمع الدولي عبر صمته أو اكتفائه بالإدانة اللفظية دون اتخاذ إجراءات عملية كفرض العقوبات أو تقييد التعاون مع من يثبت تورطه في التحريض على الكراهية الدينية.
ما يحدث الآن ليس مجرد انتهاك لحرية العبادة، بل تصعيد ممنهج نحو “أسرلة” المجال العام بالكامل، وتجريد المجتمع العربي في الداخل من عناصره الرمزية والدينية والثقافية. وممارسات بن غفير ليست شطحات فردية، بل خطوات مدروسة نحو تحويل إسرائيل إلى دولة “يهودية صرف”، لا مكان فيها لصوت الأذان، ولا لصلاة، ولا حتى لهوية غير يهودية.
وفي ظل هذا الواقع، فإن غياب المحاسبة لا يعني الشرعية. هو فقط تأجيل لحظة الانفجار. فالشعوب لا تصمت طويلًا حين يُستهدف دينها وكرامتها، حتى لو صمت العالم كله.