أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن العالم يشهد مرحلة انتقالية حاسمة في النظام الدولي، معلنًا أن “النظام الأحادي القطب أصبح من الماضي”، في إشارة مباشرة إلى تراجع الهيمنة الغربية وبروز قوى بديلة تتصدرها دول مجموعة “بريكس”.
جاء ذلك خلال مشاركة بوتين، عبر تقنية الفيديو، في قمة “بريكس 2025” التي تستضيفها مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، وسط حضور واسع لزعماء الدول الأعضاء الجدد والقدامى، في إطار توسعة غير مسبوقة للمجموعة.
توسع استراتيجي وتحالف عالمي متعدد الأقطاب
أبرز ما لفت الأنظار في خطاب بوتين هو تشديده على الطابع العالمي الجديد لتحالف “بريكس”، حيث أشار إلى أن الشراكة توسعت بشكل ملحوظ لتشمل دولًا كبرى من أوراسيا وإفريقيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، ما يمنح الكتلة الجديدة “إمكانات سياسية واقتصادية وعلمية وتكنولوجية وبشرية هائلة”، وفق تعبيره.
ويمثل هذا التوسع امتدادًا لاستراتيجية روسية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة تشكيل ميزان القوى الدولي، عبر تعزيز الروابط مع دول الجنوب العالمي، وتفعيل التعددية القطبية في العلاقات الاقتصادية والسياسية، بعيدًا عن النماذج الغربية التقليدية التي طالما قادتها الولايات المتحدة.
الروبل والعملات المحلية… أداة مقاومة للعقوبات
وفي سياق المواجهة المستمرة مع النظام المالي الغربي، أشار بوتين إلى تزايد الاعتماد على العملات الوطنية في المبادلات التجارية بين دول بريكس، كاشفًا أن حصة التعامل بالروبل الروسي وعملات الدول “الصديقة” وصلت إلى نحو 90% من حجم التبادل التجاري بين روسيا وباقي أعضاء التكتل خلال العام الماضي.
ويمثّل هذا التحول محاولة واضحة لفك الارتباط بالدولار الأميركي، والحد من تأثير العقوبات المالية المفروضة على موسكو، عبر تعزيز نظام تسويات موازٍ يقوم على الثقة المتبادلة، والتكافؤ في المصالح الاقتصادية بين الشركاء.
رؤية استثمارية جديدة… ومنصة تمويل بديلة
في كلمته، شدد بوتين أيضًا على أهمية دفع الاستثمارات المتبادلة بين دول المجموعة، عبر تفعيل أدوات مالية جديدة تحت مظلة “بنك التنمية الجديد”، وهو الذراع التمويلية لبريكس، والذي بدأت أهميته تتزايد في مواجهة المؤسسات المالية الغربية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
ولم يتوقف بوتين عند التوصيات، بل قدّم اقتراحًا عمليًا يتمثل في إنشاء منصة استثمارية جديدة خاصة بدول بريكس، تهدف إلى تسهيل تدفق رؤوس الأموال، وتمويل المشاريع الاستراتيجية بين أعضاء المجموعة، في خطوة تنسجم مع التوجه الروسي نحو خلق مؤسسات بديلة للنظام المالي التقليدي الخاضع للنفوذ الأميركي والأوروبي.
قمة بريكس في ريو… أكثر من رمزية
انعقاد القمة هذا العام في البرازيل، إحدى أكبر الاقتصادات الناشئة في نصف الكرة الجنوبي، يعكس تحول مركز الثقل الجيوسياسي من الشمال نحو الجنوب. كما أن استخدام بوتين لمنصة “بريكس” للتعبير عن رؤيته العالمية يأتي في لحظة فارقة بالنسبة للسياسة الدولية، حيث تواجه موسكو عزلة غربية متزايدة بسبب حربها في أوكرانيا، وتبحث في الوقت ذاته عن تحالفات استراتيجية أكثر رسوخًا واستقلالية.
وبينما تحاول واشنطن وحلفاؤها الحفاظ على الهيكل التقليدي للنظام الدولي، تبدو دول “بريكس” – في صيغتها الموسعة – أقرب إلى بلورة بديل فعلي يمكنه التحدث بلغة الجنوب العالمي، والتصرف وفق مصالحه، بعيدًا عن منطق الإملاءات.
عالم ما بعد القطبية… هل آن أوانه؟
رسالة بوتين كانت واضحة: النظام الدولي لم يعد يتحمّل مركزية القرار في عاصمة واحدة. ومع تزايد التوترات الجيوسياسية، والنمو المطّرد للاقتصادات الناشئة، فإن مجموعة “بريكس” تُطرح اليوم كمنصة لإعادة التوازن إلى النظام العالمي، وفق معايير جديدة ترتكز على احترام السيادة، والتعاون المتكافئ، والشراكات التي تتجاوز حدود النفوذ التاريخي للدول الغربية.
لكن يبقى السؤال: هل تملك “بريكس” القدرة على تجاوز التنوع الجغرافي والتباين السياسي بين أعضائها، لتتحول إلى قوة موحدة تُعيد تشكيل النظام العالمي؟ الإجابة ربما بدأت ترتسم بالفعل في كلمات قادة المجموعة، الذين باتوا يتحدثون بلغة واحدة… عنوانها: ما بعد الهيمنة.