في غزة، لم تعد الكلمات قادرة على الإحاطة بحجم المأساة. ما يجري ليس مجرد حرب تقليدية، بل هو واقع من الانهيار الإنساني الشامل، تُستخدم فيه وسائل لا تكتفي بالتدمير العسكري، بل تسعى إلى تكسير الإرادة الإنسانية من جذورها، وحرمان الناس من أبسط مقومات الحياة: الغذاء والماء والرعاية الصحية.
تصريحات المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني لم تأتِ من فراغ، بل تُعبر عن صرخة في وجه مأساة باتت تهدد حياة ملايين المدنيين. التحذير من مجاعة وشيكة في غزة لا يشير فقط إلى قلة الطعام، بل إلى تحوّل التجويع إلى أداة ضغط عسكري وسياسي. فإسرائيل، وفق التقارير الأممية، لا تكتفي بمنع المساعدات من الدخول، بل تُحوّل الغذاء نفسه إلى سلاح لإجبار المدنيين على النزوح، ضمن سياسة تبدو موجهة لاقتلاع الناس من أرضهم لا قتال المسلحين فقط.
حصار ممنهج
ما يزيد المشهد قتامة هو أن الأزمة الغذائية في غزة لا تنبع من كارثة طبيعية أو ندرة في الموارد، بل من حصار ممنهج ومتصاعد، يُدار بشكل متعمد ومخطط له سياسياً. لازاريني وصفه بأنه “من صنع الإنسان”، وهذه العبارة تضع المجتمع الدولي، لا سيما الدول المؤثرة، أمام مسؤولية أخلاقية وتاريخية غير قابلة للتجاهل. إن منع الغذاء عن المدنيين، واستخدام الجوع كسلاح حرب، هو انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، بل ويُقارب جريمة حرب بمقاييس المنظمات الحقوقية.
في غزة اليوم، لا يموت الناس فقط تحت القصف، بل يموتون أيضاً بصمت، من شدة الجوع، من انعدام المياه النظيفة، من انهيار المنظومة الصحية التي تلقت أكثر من 680 ضربة منذ أكتوبر الماضي. لم يعد المشهد مجرد أزمة إنسانية، بل مجزرة بطيئة تُنفّذ عبر أدوات الحصار والتجويع، بتواطؤ صريح أو صمت مُعيب من المجتمع الدولي.
غزة تنتظر قرار سياسي
الوضع بلغ حداً مخيفاً، حيث نزح أكثر من 400 ألف شخص خلال شهرين فقط، بينما باتت معظم العائلات غير قادرة على تأمين المياه أو الحصول على وجبة ساخنة. عدد المطابخ المجتمعية تراجع بنسبة كبيرة، والمساعدات المتوفرة مُخزّنة في مناطق خارج غزة، تنتظر قراراً سياسياً للسماح بدخولها، وكأن حياة مليوني إنسان باتت رهن قرار أو مزاج دبلوماسي.
ما يثير الرعب أكثر هو أن هذا التجويع ليس نتيجة عرضية للحرب، بل يبدو وكأنه هدف استراتيجي، جزء من عملية تهجير ممنهجة، تهدف إلى دفع السكان نحو الاستسلام أو الرحيل الجماعي. هذا النوع من الحصار يعكس رغبة واضحة في “كسر الروح” قبل الجسد، في تفريغ غزة من سكانها، لا فقط ضرب بنيتها العسكرية.
صمت العالم
في هذه اللحظة التاريخية المظلمة، يصبح صمت العالم – خصوصاً الدول التي وعدت ذات يوم بأن “لا يتكرر ذلك أبداً” – شريكاً في الجريمة. ليس لأنهم ارتكبوا الانتهاكات، بل لأنهم يقفون موقف المتفرج، في وقت يحتاج فيه الناس إلى صوت العدالة والإنسانية.
ووسط هذا الخراب، تبقى غزة شاهدة على قسوة لم يشهدها العصر الحديث بنفس هذا الشكل الممنهج والطويل. أزمة الغذاء والماء والدواء لم تعد احتمالاً، بل واقعاً حارقاً يهدد حياة الملايين. الكارثة ليست قادمة… الكارثة بالفعل وقعت، ونحن نشاهدها كل يوم، دون أن يتحرك ضمير العالم كما يجب.