الضربة التي نفّذها جيش الاحتلال الإسرائيلي فجر الثلاثاء واستهدفت ما وصفه بـ”مركز قيادة وسيطرة لحماس” داخل مستشفى ناصر في خان يونس، تُعد حلقة جديدة في سلسلة الهجمات التي طالت البنية التحتية المدنية في قطاع غزة، وتحديداً المستشفيات، بدعوى أن حركة “حماس” تستخدمها لأغراض عسكرية.
لكن هذه المزاعم، حتى لو قُدّم بعضها بوثائق استخباراتية أو صور حرارية، لا تخفي الطبيعة الخطيرة لهذا النمط من الاستهداف الذي يضع الأسس الأخلاقية والقانونية للعمل العسكري تحت المجهر، ويثير تساؤلات كبيرة حول النوايا الإسرائيلية الحقيقية تجاه مستقبل القطاع، ومدى ارتباط ذلك بمخطط متكامل لتدمير كافة مناحي الحياة فيه.
استخدام “الذريعة العسكرية” لتبرير الاستهداف
إسرائيل تعتمد منذ بداية الحرب على مبرر بات مألوفاً: أن “حماس تستخدم البنية المدنية كدروع بشرية”، وبالتالي فإن قصف المستشفيات أو المدارس أو مراكز الإيواء يدخل ضمن “الضرورة العسكرية”. لكن هذه الذريعة لا تصمد طويلاً أمام الحقائق الميدانية التي وثقتها منظمات دولية، والتي أظهرت أن عشرات المنشآت الصحية قد تم تدميرها كلياً أو جزئياً، في وقت كان بعضها لا يزال يقدّم خدماته للمصابين، ويأوي آلاف المدنيين الذين فروا من القصف.
في حالة مستشفى ناصر، حتى لو وُجدت عناصر من “حماس” داخله، فإن القواعد الدولية للحرب (خصوصاً اتفاقية جنيف الرابعة) تلزم الأطراف المتحاربة بعدم استهداف المنشآت الطبية إلا إذا ثبت بشكل لا يقبل الشك أنها تُستخدم لأغراض قتالية فعلية، وبعد توجيه إنذار مسبق، وهو ما لا يتوفر في معظم الحالات التي نفّذها الجيش الإسرائيلي. بهذا المعنى، يصبح الاستهداف شكلاً من أشكال العقاب الجماعي المقصود، يهدف إلى شلّ ما تبقى من النظام الصحي في غزة.
لماذا المستشفيات؟
الاستهداف الممنهج للمستشفيات في غزة يتجاوز مسألة “ردع حماس”. هو في الواقع جزء من عقيدة تدمير شامل للبنية التحتية، ترمي إلى تقويض أي إمكانية للحياة الطبيعية في القطاع. حين يُقصف مستشفى، لا يُقتل فقط المرضى والطاقم الطبي، بل تُوجّه رسالة رمزية ومعنوية لكل من تبقى: “لا أمان في أي مكان، حتى داخل الجدران البيضاء”. وبهذا يتحول القصف إلى أداة ترويع جماعي، تؤسس لما يمكن وصفه بـ”تفكيك المجتمع من الداخل”.
وتأتي هذه الضربات في وقت تعيش فيه غزة حالة انهيار صحي وإنساني شامل: انعدام للأدوية، انقطاع الكهرباء، غياب الأجهزة الطبية الحيوية، واستحالة الإخلاء الطبي. ومع ذلك، تصر إسرائيل على استهداف المرافق المتبقية، ما يؤشر إلى أن الهدف الحقيقي قد لا يكون وقف تهديدات حماس فقط، بل إخضاع كامل السكان عبر التدمير الممنهج لمقومات الحياة.
الترابط مع الإفراج عن الرهائن
اللافت أن هذا القصف جاء بعد ساعات فقط من إطلاق سراح الرهينة الإسرائيلي-الأميركي عيدان ألكسندر، الذي يُفترض أن يشكل انفراجة نحو تهدئة أو على الأقل تخفيف العمليات العسكرية. لكن الرد الإسرائيلي كان معاكساً تماماً، وهو ما يكشف أن إسرائيل لا تنظر إلى إطلاق الرهائن كمسار للتسوية، بل كفرصة لإعادة تصعيد العدوان تحت غطاء “نجاح الضغط العسكري”. هذا النمط السلوكي يعكس قناعة داخل الدوائر السياسية والعسكرية الإسرائيلية بأن استمرار الحرب، وتحديداً على المدنيين والبنية التحتية، هو الوسيلة الأفضل لفرض الاستسلام الشامل، لا المفاوضات.
ماذا يعني تدمير القطاع فعلياً؟
إذا وضعنا كل الضربات التي استهدفت المستشفيات، والمدارس، وشبكات المياه والكهرباء، والمخيمات ومراكز الإيواء، ضمن مشهد واحد، فإن ما يتكشف هو مشروع “تصفير” لغزة، أي تحويلها إلى منطقة غير قابلة للعيش، تمهيداً إما لفرض إدارة أمنية إسرائيلية مباشرة، أو لدفع سكانها نحو التهجير الجماعي، تحت عنوان “الهروب من الجحيم”.
الاستهداف المتكرر للمستشفيات لا يعكس فوضى عملياتية أو أخطاء استخباراتية، بل سياسة مقصودة تستهدف “عقل” المجتمع الفلسطيني: الصحة، الرعاية، الأمان، وحتى الأمل. فحين يُفقد المرضى والجرحى حقهم في العلاج، وتُترك النساء للولادة في الأنقاض، وتُجرى العمليات الجراحية بدون مخدر أو إنارة، فإننا أمام محاولة تفكيك الإنسان الفلسطيني، لا فقط مقاومته.
الحديث عن “أنشطة إرهابية” في المستشفيات قد يُستخدم كعنوان في الإعلام أو تبرير في التصريحات الرسمية، لكن الواقع يُظهر أن المستشفيات أصبحت هدفاً بحد ذاتها، لا وسيلة. وبهذا، تتحول الحرب من صراع سياسي/عسكري إلى حملة ممنهجة لاقتلاع غزة من الحياة، لا من السلطة فقط. ما يجري اليوم هو تدمير للقطاع بالمعنى الكامل للكلمة: البنية، المجتمع، الإنسان، والهوية.