يمثّل ملف تسوية الأراضي في فلسطين أحد أخطر التحديات الوطنية التي تتقاطع فيها الأبعاد السياسية، القانونية، والاقتصادية، وتكمن أهميته في ظل واقع الاحتلال الإسرائيلي المتسارع في محاولات المصادرة والضم، خاصة في المناطق المصنفة (ج) التي تُعد أكثر المناطق عرضة للاستهداف الاستيطاني، ومن هنا جاء تصريح رئيس الوزراء محمد مصطفى ليؤكد أن هذا الملف لم يعد شأنًا إداريًا صرفًا، بل قضية سيادية بامتياز تتطلب تحركًا وطنيًا متكاملاً.
لقاء رئيس الوزراء مع رئيس سلطة الأراضي علاء التميمي، وما تضمنه من عرض للمبادرة الوطنية لتوحيد وإصلاح منظومة إدارة الأراضي وتسريع أعمال التسوية، يعكس إدراكًا رسميًا لضرورة كسر الجمود الذي شاب هذا الملف خلال السنوات الماضية، والعمل على ترسيخ الملكيات الفلسطينية عبر أدوات قانونية ومؤسسية تضعف من قدرة الاحتلال على استغلال الثغرات في السجل العقاري الفلسطيني.
توسيع المستوطنات
المبادرة تأتي في توقيت بالغ الحساسية، إذ تُعد المناطق غير المسوّاة ساحة مفتوحة أمام الاحتلال الذي يستغل غياب التسوية لإعلان مساحات شاسعة كـ “أراضي دولة”، تمهيدًا لمصادرتها وتوسيع المستوطنات عليها. لذلك، فإن تسريع أعمال التسوية وتسجيل الأراضي يمنح الفلسطينيين سندًا قانونيًا يمكن استخدامه على المستويين المحلي والدولي للدفاع عن حقوقهم، كما يشكل وسيلة لمواجهة زحف الضم الزاحف وغير المعلن.
من جهة أخرى، تضع المبادرة بُعدًا إصلاحيًا في قلب المشروع، عبر دمج هيئة تسوية الأراضي والمياه مع سلطة الأراضي، ودمج أقلام محاكم التسوية مع مجلس القضاء الأعلى. هذا التوجه نحو توحيد المرجعيات الإدارية والقضائية يعكس تطلعًا لتعزيز الحوكمة الرشيدة، وتبسيط الإجراءات، والحد من الازدواجية التي طالما أعاقت تقدم الأعمال وأربكت المواطنين. توحيد المؤسسة العاملة في ملف الأرض تحت مظلة واحدة يُسهم في رفع كفاءة الأداء، ويوفر بيئة أكثر شفافية ونزاهة في إدارة أحد أكثر الملفات حساسية.
الاستفادة من برامج التنمية
كما أن البناء على تجربة التسوية التي تم إنجازها منذ عام 2016، والتي وصلت إلى أكثر من 1.6 مليون دونم ضمن مجمل 3.6 مليون دونم تم تسويتها تاريخيًا، يؤكد أن القاعدة التقنية والبياناتية متوفرة، وأن ما يلزم اليوم هو الإرادة السياسية والدعم المؤسسي لتوسيع نطاق العمل، وهو ما أكده رئيس الوزراء بوضوح خلال اللقاء، حين أشار إلى ضرورة توفير كل أشكال الدعم – بما في ذلك من القضاء – لإنجاح هذه المهمة.
الأثر الاقتصادي للمبادرة لا يقل أهمية عن البعد السياسي؛ إذ إن تثبيت الملكية وإصدار سندات التسجيل يفتح المجال أمام الأفراد والمؤسسات للاستثمار، والرهن، والتخطيط العمراني، كما يضمن للمواطنين الاستفادة من برامج التنمية والحصول على الخدمات، ويضع حدًا للنزاعات التي لطالما نشبت بسبب غياب الوثائق الرسمية أو تضارب المرجعيات القانونية.
كما أن وجود سجل عقاري دقيق، موحد، ومعتمد رسميًا، هو ركيزة أساسية لأي تنمية مستدامة، ويسهم في تقليص حجم الفساد والمحاباة في ملف الأراضي، ويُعيد ثقة المواطن بالمؤسسات العامة، لا سيما في ظل أزمة ثقة متزايدة بسبب التحديات الاقتصادية والسياسية المستمرة.
حماية قانونية فعلية للأرض الفلسطينية
تسوية الأراضي ليست فقط خطوة إدارية أو خدمة تنظيمية، بل هي حماية قانونية فعلية للأرض الفلسطينية من الاستيطان، وهي أداة وطنية لإثبات الحق أمام المحاكم الإسرائيلية والدولية على حد سواء. لذلك، فإن المبادرة الوطنية التي طُرحت اليوم تُعد نقطة ارتكاز في مشروع بناء الدولة، وترجمة عملية لمفاهيم السيادة والتنمية.
ومع أن الطريق ما يزال طويلاً، إلا أن هذه الخطوة تُعد تطورًا مهمًا في إدارة هذا الملف المزمن، وهي بحاجة الآن إلى إرادة تنفيذية، وآليات تمويل واضحة، ودعم سياسي شامل من كل الفصائل ومكونات المجتمع، باعتبار أن الأرض هي جوهر الصراع، وهي الركيزة التي لا يمكن لأي مشروع وطني أن يقوم بدون تثبيتها.