ما يحدث في القدس والضفة الغربية لم يعد مجرد تصعيد متقطع، بل يشير إلى استراتيجية ممنهجة من قبل الاحتلال الإسرائيلي، تهدف إلى تغيير الطابع الديني والديموغرافي للمدينة، وتفريغها من مضمونها الروحي والتاريخي المتعدد. هجمات المستوطنين، سواء على المسجد الأقصى أو على المقدسات المسيحية، لم تعد أحداثًا عشوائية بل تُنفذ بشكل شبه يومي، وتحت حماية رسمية مباشرة من الشرطة الإسرائيلية، مما يُحوّلها من مجرد “اعتداءات فردية” إلى سياسة دولة.
تدنيس الرموز المسيحية
اقتحام باحات المسجد الأقصى لم يعد أمرًا نادرًا ولا مرتبطًا فقط بمناسبات دينية يهودية، بل أصبح روتينًا تتباهى به جماعات “الهيكل” المتطرفة، التي لا تُخفي هدفها النهائي: إزالة الوضع القائم في الأقصى، وبناء الهيكل مكانه. هذه الجماعات تعمل في العلن، بدعم سياسي واضح، وتنسيق أمني مع شرطة الاحتلال، التي لا تقوم فقط بتأمين الحماية للمقتحمين، بل تعتدي في كثير من الأحيان على الفلسطينيين المُرابطين في المسجد، وتعتقلهم وتُبعدهم قسريًا.
اللافت أن هذه السياسة لا تقتصر على الإسلام وحده، بل طالت كذلك المسيحيين ومقدساتهم. ما حدث مؤخرًا في الحي الأرمني من اعتداءات على دير الأرمن ومحاولة تدنيس الرموز المسيحية يعكس حجم التطرف القومي-الديني المتصاعد داخل مجتمع المستوطنين، والذي بات يرى في كل ما هو غير يهودي تهديدًا يجب إزالته. تصمت الشرطة أمام هذه الاعتداءات أو تتواطأ معها، ما يضفي شرعية على هذه الأفعال ويُشجع على تكرارها.
رسالة خطيرة
المشكلة تتجاوز الاستهداف الديني لتصل إلى محاولة محو الوجود الفلسطيني التاريخي، بكافة تجلياته، في القدس ومحيطها. الفضاء العام يُستباح لصالح المشاريع الاستيطانية، سواء من خلال إحراق المنازل والمحاصيل، أو مهاجمة القرى كما حدث في دير دبوان وبيتين، أو بإغلاق الشوارع، والاعتداء على السكان، وسط تقاعس كامل من المجتمع الدولي، ودعم أميركي متواصل يمنح الاحتلال غطاءً لمواصلة جرائمه.
الهجوم المتزامن على الأقصى، ودور العبادة المسيحية، يبعث رسالة خطيرة: أن المشروع الإسرائيلي الحالي لم يعد يكتفي بالسيطرة الأمنية والسياسية، بل يتجه نحو فرض رواية دينية أحادية بالقوة، تمسح مئات السنين من التعايش والوجود المشترك. في المقابل، يتم تصوير المقاومة الفلسطينية وكأنها وحدها العائق أمام “السلام”، بينما الحقيقة أن الاحتلال وحلفاءه في الداخل من المستوطنين هم من يقودون المنطقة نحو صراع ديني شامل.
تفكيك البعد الحضاري لفلسطين
الاعتداء على المقدسات، وخصوصًا في المدينة التي تُعد قلب الصراع الرمزي والتاريخي، ليس مجرد انتهاك لحقوق الإنسان، بل إعلان واضح على نية تفكيك البعد الحضاري المتعدد لفلسطين. إنها محاولة لاختزال هوية القدس في طيف واحد، وهو ما يُمثّل تهديدًا للمنطقة بأكملها، ويضع الأسس لانفجار ديني طويل الأمد قد يتجاوز حدود فلسطين.
من دون محاسبة دولية جدية، ستستمر هذه السياسة، وسيصبح المشهد الديني في القدس صورة أخرى من صور الاحتلال، مطبوعًا بالكراهية والتمييز، بعيدًا كل البعد عن القداسة والكرامة التي لطالما ميزت المدينة.