للأسف يمكن الإجابة بـ” نعم”، لكن ربما أرهقتهم سنواتها الطويلة المتخمة بالألم والقهر والدم فنسوا كيف بدأت، وربما دفعتهم فظاعة ووحشية ما فعله النظام السابق بهم فغاب عنهم لماذا قاموا بها، وأصبح همهم الوحيد هو أن يتخلصوا منه، غير آبهين كيف سيتخلصون منه، ومن سيخلفه، فالخلاص منه هو خلاص من الموت، وبعد ذلك يمكن أن ينظروا كيف سيتدبرون مستقبلهم؟!
تطابق قصة الشعب السوري وما حدث لحظة سقوط النظام الذي حكمهم بالحديد والنار، إلى حد كبير قصة السوريين الذين خرجوا من سجونه بعد أن غرقوا في العتمة واليأس والموت لسنوات، وفجأة حدث الزلزال فانفتحت الحياة أمامهم بكل اتساعها، وأصبح الضوء والحرية قبض اليد والعين، وكما يتصرف أي خارج من السجن، فيندفع بكل توق الحياة للابتعاد عن القبر الذي ابتلعه لسنوات، لا يهمه في البداية إلى أين يتجه، ولا من أخرجه من السجن، وشاغله الوحيد هو التمسك بالحياة التي امتلكها فجأة.
كما تصرف معتقلو سجن “صيدنايا” ومن السجون الأخرى للنظام البائد في ساعات حريتهم الأولى، تصرف السوريون الذين استيقظوا فجأة على هروب عائلة الأسد وعصابتها من سوريا، فسوريا على اتساعها لم تكن لتختلف كثيراً عن سجن “صيدنايا”، والسجّانون الذين أبدعوا في اختراع أشكال الموت في السجون، أبدع قادتهم في اختراع أشكال الموت خارجها، لكن وكما يستيقظ الخارجون من السجن بعد أن تهدأ فرحتهم بالحياة على سؤال القادم، وما العمل، يستيقظ السوريون الآن على السؤال الصعب الذي لابد من مواجهته: ماذا بعد؟، ورغم أنه سؤال ينفتح بداهة على المستقبل إلا أن الفاجعة تتجلى بأنهم يبحثون عن جوابه في الماضي، وفي إرث الماضي الثقيل، ويتناسون ما حلموا به وما رفعوا أصواتهم من أجله في أيام ثورتهم الأولى!
هل سوريا في خطر؟
هل أبالغ إن قلت إن سوريا لم تعرف خطراً في تاريخها أشد من الخطر الذي تعيشه اليوم؟! أعرف أن هذا سيكون صادماً، وسيعزز من تصنيفي ضمن المتشائمين، أو “المتصيدين في الماء العكر” كما يروق للبعض تسميتهم، لكن هل عرفت سوريا في تاريخها الحديث، أي بعد تشكّلها نهاية الدولة العثمانية مطلع القرن الماضي ظرفاً بالغ الضعف والهشاشة كما هي اليوم، دولة نصف مبانيها مدمرة، ونصف شعبها مهجر، واقتصادها منهار، وبلا جيش، وبلا أحزاب وقوى سياسية، والأخطر أنها في أشد لحظات انقسامها المجتمعي، والأدهى أنه انقسام ساخن ينفتح على الانتقام والثأر والحقد والدم.
في كل الدول التي عرفت ظروفاً مشابهة ونهضت من خرابها كان هناك عامل رئيسي في نهوضها، هو تصميم شعوبها على إعادة إعمارها ووحدتها والإخلاص لها، والأهم هو تبني أفرادها لهوية عليا جامعة، أما الدول التي غاب هذا العامل عنها فكان مصيرها إما التقسيم، أو التلاشي، بعد حروب طويلة، وبعد تغييرات ديمغرافية وتهجير سبقتها مجازر وفظائع.
الخطر الأكبر في سوريا ليس دمارها، ولا اقتصادها المنهار، ولا شعبها المهجّر، رغم خطورة كل هذا، الأخطر من هذا كله هو انقسامها المجتمعي الذي يزداد، وتفشي خطاب الكراهية، وانتشار الجرائم التي تُرتكب على أرضية الانقسام المجتمعي، والأمر الذي يزيد من خطورة هذا الانقسام، ومن تهديده لوحدة سوريا، هو أن السلطة التي تدير سوريا اليوم جزء فاعل فيه، وهي تسهم فيه متعمّدة، أو متواطئة، وبالتالي يغيب العامل الأهم في التصدي له أي السلطة الواعية المتنبهة لمخاطر هذا الانقسام، والدولة الجامعة التي ترى السوريين جميعاً على قدم المساواة.
إقرأ أيضا : ما الذي تعنيه زيارة الشرع لأنقرة؟
هل هناك خطر على وحدة سوريا، وهل يمكن تقسيم سوريا؟
أيضاً لا أبالغ إن قلت أن هناك خطرا حقيقيا يهدد وحدة سوريا، ويدفع بها إلى التقسيم، وتتعزز كل يوم إمكانات هذا الاحتمال، سواء من الداخل السوري أو من خارجه، ولم يعد القول بأن الأطراف الدولية الفاعلة لا تريد التقسيم مقنعاً، سيما وأن المؤشرات التي تجري في المنطقة كلها بما فيها الداخل السوري، تعزّز منه، وأهم هذه المؤشرات هو ملامح ما يخطط له في هذه المنطقة، ومحاولة إنهاء الوجود الفلسطيني داخل غزة والضفة، وإعادة رسم المنطقة جغرافياً، ولن تكون سوريا خارج هذه المعادلة، وما يعزز من حضور فكرة تقسيم سوريا، وتواطؤ أطراف داخلية وخارجية فاعلة، هو ما تعيشه سوريا اليوم من انهيار في ما تبقى من الدولة السورية، سواء عبر تعميق الانقسام داخل المجتمع السوري، وعبر إبراز الهويات الفرعية، ومنع تشكل التمثيلات السياسية العابرة للطوائف والقوميات وكل التصنيفات الفرعية.
في هذا السياق يأتي الدفع لتشكيل المجلس العلوي، ويأتي اللون الواحد للسلطة التي تحكم سوريا اليوم، ويأتي تعقيد شروط التفاوض مع الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، وكذلك الأمر في السويداء، رغم أن حل كل هذه التعقيدات ممكن لو أن هناك إرادة حقيقية لحلّه، فالإصرار على إضفاء صبغة واحدة على الدولة والسلطة في سوريا هو مقتل سوريا، ومن يستعيد تاريخ نشوء سوريا مطلع القرن الماضي، وكيف استطاع الآباء المؤسسون أن يتجاوزوا هذه المعضلة، يدرك مدى فداحة الخطأ الذي ترتكبه السلطة الحالية المتمثلة بالرئيس “أحمد الشرع”، والطاقم الذي يحيط به، والأطراف الخارجية الداعمة له.
لا يمكن تجاهل حقائق الأرض لو أردنا أن ننقذ سوريا، وإذا أردنا أن نشقّ الطريق إلى سوريا موحدة قابلة للحياة فإن أهم ما نحتاجه هو أولاً وقبل كل شيء هوية سورية جامعة، ترتكز على سلم أهلي حقيقي، جوهره العدالة والقانون والمساواة في المواطنة.
بعبارة شديدة الوضوح مهما تكن ردة الفعل عليها، أو استهجانها من قبل تيار واسع من السوريين، فإن سوريا ستبقى عرضة للتقسيم، وللاقتتال الأهلي مالم يتحقق فيها شرطان أساسيان:
أولاً: قادة سوريون يعلون سوريا فوق أي اعتبار آخر، يتصرفون كرجال دولة حقيقيين، يقرأون بعمق حقائق الجغرافيا والتاريخ، والتعقيدات الجيوسياسية لموقع سوريا وأهميته، ومصالح الدول الكبرى فيها.
ثانياً: دولة علمانية ديمقراطية، ترسّخ هوية سورية جامعة لكل السوريين، ولا تفيد في شيء تلك المخاتلة في تسمية الدولة “مدنية” أو “علمانية” فسوريا لا تقوم إلا عبر دولة علمانية في جوهرها، مهما تكن التسمية التي تطلق عليها.