مع كل زيارة مسؤول أوروبي إلى تونس والإعلان عن مساعدات لدعم عمل الحكومة في مواجهة الهجرة غير النظامية تعود إلى الواجهة موجة الانتقادات للرئيس التونسي قيس سعيد، بنفس المفردات: توطين الأفارقة، المس من السيادة الوطنية، تونس تلعب دور شرطي أوروبا.
تكرر الكلام نفسه بعد زيارة وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي إلى تونس ولقائه قيس سعيد. مع أن الوزير البريطاني أيضا ليس “أوروبيا” بالمعنى القانوني وضمن بنية الاتفاقات. ولكنه يتحرك ضمن مقاربة صد موجات اللاجئين مقابل تقديم دعم لدول الانطلاق و العبور.
الكلام نفسه يقوله المعارضون لقيس سعيد والمحسوبون عليه. هناك توافق شبه كلي على رفض وجود أفارقة على الأراضي التونسي، ورفض لأن تلعب الحكومة دورا في صد موجات الهجرة نحو أوروبا تحت شعار دعهم يذوقوا ويلات السياسات غير العادلة نحو شعوب أفريقيا منذ مرحلة الاستعمار وإلى حد الآن.
لو أن هذه الأفكار تقف عند الورق أو التصريحات النظرية، فهي ممكنة وتجد لها أنصارا. لكن أن يراد للدولة التونسية أن تكتفي بمراقبة موجات المهاجرين تمر عبر أراضيها ومياهها الإقليمية ولا تحرك ساكنا نكاية في الغرب، الذي لم يبادر إلى دعمها وضخ الأموال في ميزانيتها ومساعدتها على مغادرة مربع الأزمات، فهذا كلام غير واقعي ولا تقدر البلاد على تحمل نتائجه.
أولا تونس تحتضن 20 ألف مهاجر أفريقي على أراضيها، هذا في الحد الأدنى وهناك أرقام تتحدث عمّا هو أكبر، وهو ما يعني أنها في قلب الرحى وعليها أن تكون شريكا في مواجهة الهجرة غير النظامية، أو على الأقل البحث لها عن حلول بالتنسيق مع شركاء في أوروبا.
لا تقدر تونس على ترحيل هؤلاء المهاجرين بأيّ شكل، لاعتبارات عملية بدرجة أساسية، فأين سترحلهم، وهل تقدر على ذلك؟ هل ستدفع بهم إلى حدود دول الجوار التي تسللوا منها على مدى عشر سنوات أو أكثر. الأمر بالغ التعقيد لأن الجزائر وليبيا سترفضان، وليست مسؤوليتهما أن حكومات تونسية سابقة قد تهاونت في غلق الحدود، أو خيرت عدم إغضاب الجيران بأن ترد لهم ما تسلل من أراضيهم أولا بأول.
إقرأ أيضا : الإرهابيون التونسيون في سوريا.. هل تستمر تونس بالتنسيق مع الشرع بشأنهم؟
هل ستدفع بهؤلاء إلى البحر، وتقول لهم اذهبوا إلى أوروبا فهي بانتظاركم. وحتى لو غامرت وفعلت ذلك، فإن أوروبا ستعيد المهاجرين إليها كونها بلد العبور من دون اتفاق ولا ترتيبات ولا مراعاة وضع، كما يحصل الآن، حيث تعمل أوروبا ما في وسعها لدعم تونس من بوابة شراكة جماعية أو ثنائية.
الواقعية، وعقل الدولة البارد، وحكم السياسة، كلها عناصر تقول إن على تونس أن تتعامل مع ما هو قائم. وفي ظل تشدد أوروبي ضد موجات اللاجئين وقوارب تهريب البشر، فإن الحل هو الشراكة. صحيح أن ما تقدمه أوروبا محدود، وليس في مستوى الانتظار الحكومي، لكن تغييره لا يتم إلا بالحوار، وخاصة بإظهار القدرة على تنفيذ التعهدات مثلما تفعله الآن تونس، التي نجحت بشكل لافت في الحد من تدفق المهاجرين. وهي بهذا لا تحرس حدود الآخرين بقدر ما تحمي أمنها وشراكتها ومصداقيتها مع الآخر.
وتفيد بيانات الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس) إلى تراجع تدفق المهاجرين عبر غرب المتوسط بنحو 60 في المئة في 2024 بعد عدة تدابير اتخذتها الدول الأوروبية مع شركائهم جنوب المتوسط وأولهم تونس.
ومن المفيد الإشارة إلى أن تونس نجحت في إقناع الأوروبيين بفكرتها التي تقوم على دعم التنمية في الدول الأصلية للمهاجرين التي تعيش أوضاعا صعبة ومعقدة بسبب الحروب والتغييرات المناخية. وقالت وزارة الخارجية التونسية الجمعة إن “المقاربة العادلة والشاملة لهذه الظاهرة تتطلّب التركيز على معاجلة الأسباب الحقيقيّة المسبّبة لها وعدم الانكفاء إلى حلول أمنية صرفة، وذلك من خلال تعزيز التعاون مع كافة الشركاء الإقليميين والدوليين”.
هذه مقاربة ستنجح مع الوقت في وقف موجة الهجرة، ما عدا ذلك يصبح الأمر صعبا لأن الخيار الأمني وحده لا يكفي مع قدرة المهربين على تغيير أساليبهم في مواجهة حزم دول العبور، وقدرات تونس لا تسمح لها بأن تركز الجهد والمال والوقت على معركة ليست من صميم معاركها.
ومن المهم أن تنتقل الواقعية إلى الخطاب الرسمي والشعبي، وخاصة في التيار المحسوب على قيس سعيد. هناك شعبوية معادية للأفارقة تجلب لتونس المزيد من المشاكل المجانية. فما يتم تداوله من حملات وقصص على مواقع التواصل يتم تحويله إلى أداة ضغط على تونس من بوابة تهم العنصرية واستعداء الأفارقة، ما يستدعي كل مرة تدخل وزارة الخارجية للتوضيح أو النفي. وجدد بيان الخارجية التونسية الجمعة رفض تونس القاطع “لكل أشكال التمييز وخطاب الكراهيّة واستغلال معاناة المهاجرين غير النظاميين وتوظيفها لمصالح وغايات ضيّقة”.
وبدلا من الاضطرار لإصدار البيانات، فإن الحكومة مطالبة اعتمادا على التزاماتها الدولية بأن تقوم بحملة واسعة ضد العنصرية على مواقع التواصل الاجتماعي. هناك حملات موجهة تخرج بالمسألة من إبداء الرأي المختلف تجاه ظاهرة إلى تبني خطاب عنصري يتنافى مع قيم البلاد وتاريخها في رفض العبودية وريادتها في “تحرير العبيد”. والصمت على العنصرية ضد الأفارقة يؤسس لخطاب عنصري يمكن أن يتمدد ليقسم البلاد على أساس الانتماء المناطقي أو اللون في بلد يفترض أنه الأكثر قدرة على الانفتاح والتسامح بحكم وجوده المباشر على حدود أوروبا.
المهاجرون على أراضي تونس، بشر من حقهم أن يأكلوا ويشربوا ويتداووا، وأن يتلقوا الأموال، وأن يتعلم أطفالهم. والإقامة المؤقتة لا تعني مخيمات الموت والفقر والمرض والعنصرية. هذا لا يبرر بقاءهم، ولكن الخوف من التوطين لا يجيز لأيّ كان أن يمنعهم من حقوقهم الأساسية خاصة أن تونس لو فتحت الباب ستجد مساعدات حقيقية من دول ومنظمات تعنى باللاجئين والمهاجرين العابرين.
إن تونس بهذه الخطوة المهمة، إن تحققت، فإنها تدافع عن قيمها ومبادئها التي تطالب بحق الناس في الحياة الكريمة، مثلما عبّرت عنه مرارا بشأن أوضاع الفلسطينيين. وهذا العدل الإنساني سيكون دافعا قويا لدفاع تونس عن أمنها القومي. الأمن القومي ليس فقط استنفار عناصر الشرطة والجيش، ولكن بناء منظومة قيم تحمي من التطرف والعنصرية وكراهية الآخر.
سيكون من المهم أن تشدد تونس إجراءاتها على الحدود لمنع تسلل مهاجرين جدد، وتأخذ ما يكفي من الوقت لإعادة المهاجرين الموجودين على أراضيها إلى بلدانهم ضمن مقاربة دعم التنمية في دول جنوب الصحراء والتدخل لوقف الحروب. لكن قبل ذلك عليها أن تتحمل مسؤوليتها في حمايتهم وخدمتهم وفق القوانين الدولية. من حقها أن تطالب المجتمع الدولي بدعمها، لكن لا يجب أن تلجأ إلى خيارات ترتد عليها حملات تشويه.
ولو تابعنا ردود المسؤولين الأوروبيين، جماعيا أو فرديا لوجدنا تفهما واضحا لمشاكل تونس ودول العبور الأخرى، ومشاكل الدول التي ينتقل منها المهاجرون. وقال وزير الخارجية البريطاني خلال زيارته إلى تونس إن “تحسين مستويات معيشة الناس في وطنهم يعني جعلهم أقل عرضة للقيام برحلة محفوفة بالمخاطر إلى المملكة المتحدة، وإثراء العصابات الإجرامية واستغلال نظام الهجرة لدينا”.
وأضاف “الدعم الذي أعلنه، إلى جانب التكنولوجيا البريطانية مثل الطائرات دون طيار ومناظير الرؤية الليلية، من شأنه أن ينقذ الأرواح، ويخفض مستويات الهجرة، ويساعدنا في الضغط على المسؤولين عن تهريب المهاجرين إلى المملكة المتحدة”.