بينما تتواصل الحرب على قطاع غزة في شهرها العاشر، تواصل الفصائل الفلسطينية المسلحة – وفي مقدمتها كتائب القسام وسرايا القدس – إصدار بيانات تتحدث عن استهداف آليات ومواقع إسرائيلية داخل القطاع، بما في ذلك تدمير دبابات من طراز “ميركافاه” وجرافات عسكرية، أو قصف مواقع عسكرية بقذائف الهاون. هذه البيانات، التي تصدر بصيغ احتفالية تُوحي بانتصارات ميدانية نوعية، تبدو – عند تفكيكها في ضوء المعطيات الميدانية – أقرب إلى رسائل رمزية تتغافل عن الكلفة الفادحة التي يدفعها المدنيون في المقابل، وتفتقر إلى أي جدوى استراتيجية حقيقية على المدى القريب أو البعيد.
فمن حيث التوقيت، تأتي هذه البيانات بالتزامن مع مفاوضات شاقة وغير حاسمة في الدوحة بشأن وقف إطلاق النار، في لحظة يعاني فيها سكان غزة من أسوأ كارثة إنسانية في تاريخهم الحديث، حيث يموت الناس جوعاً، ويعيش أكثر من 80% من السكان نازحين بلا مأوى أو دواء أو ماء نظيف. وفي هذا السياق، يصبح الاستعراض العسكري الإعلامي، مهما كان محدوداً أو رمزياً، فعلاً منقطعاً عن السياق الحقيقي الذي يعيشه الناس تحت الأنقاض، ويبعث برسالة خاطئة عن أولويات من يفترض أنه يمثلهم أو يقاتل باسمهم.
غزة ثمن الرمزية
العمليات التي تتحدث عنها حماس والجهاد الإسلامي، وإن صحت تفاصيلها، لا تغيّر شيئاً من المعادلة الأساسية على الأرض: الاحتلال مستمر، الدمار شامل، والحصار خانق. بل إن أغلب هذه العمليات باتت تُنشر بأثر رجعي، لتصوير لحظات نادرة من المقاومة على أنها إنجازات ميدانية، في حين أن الواقع يشهد على انهيار شبه كامل في البنية التحتية للقطاع، واستشهاد عشرات الآلاف من المدنيين، وغياب أي حماية حقيقية للسكان، لا من العدوان ولا من تبعاته.
الخطير في هذه الخطابات أنها تتجاهل كلياً الكلفة البشرية المهولة لهذه المواجهة. فكل عبوة تُفجّر مقابل دبابة، تُقابلها عشرات الغارات الجوية التي تدمر أحياءً بأكملها وتدفن أسرًا تحت الركام. وكل قذيفة هاون تُطلق على نقطة عسكرية، تُستتبع بقصف كثيف وعشوائي لمخيم أو مدرسة أو مستشفى. ومع ذلك، تستمر الفصائل في تقديم هذه العمليات باعتبارها ضربات موجعة، من دون أن تتوقف عند السؤال الأخلاقي والسياسي الأساسي: هل تدفع غزة ثمن تلك “الرمزية” العسكرية بمزيد من الموت الجماعي؟
اليمين الإسرائيلي المتشدد يبرر استمرار الحرب
من جهة أخرى، تعزز هذه التصريحات – وإن بحسن نية – من خطاب اليمين الإسرائيلي المتشدد، الذي يبرر استمرار الحرب باعتبار أن حماس والجهاد لا تزالان تحتفظان بقدرات عسكرية وتشكلان تهديداً. بل إنها تُستخدم في الإعلام الإسرائيلي كذريعة لاستمرار العمليات العسكرية والرفض السياسي لوقف إطلاق النار. وهكذا، تتحول كل “عملية رمزية” إلى ذريعة لعملية تدمير فعلية، يُدفع ثمنها من دماء الأبرياء، في دورة عبثية لا تتوقف.
لا يمكن أن تُختصر المقاومة في نشر صور عبوات تنفجر على أطراف المدينة، في وقت تتهاوى فيه غزة من الداخل اقتصادياً، اجتماعياً، وأخلاقياً. المسؤولية الحقيقية اليوم تقتضي مراجعة جذرية للأدوات والوسائل، والاعتراف بأن البطولات لا تُقاس بعدد الآليات المعطوبة، بل بقدرة القيادة على حماية شعبها وتأمين الحد الأدنى من شروط البقاء.
استمرار الحرب في مصلحة الاحتلال
التمسك بخطاب المواجهة بوصفه غاية في ذاته، دون تقدير دقيق للواقع الراهن، لا يصبّ إلا في مصلحة الاحتلال، الذي يبدو أكثر ارتياحاً كلما انشغلت غزة في خطاب الحرب على حساب خطاب الحياة. لقد حان الوقت لأن تعترف حماس، ومعها الفصائل المسلحة، بأن الشعب الذي يقاتل الجوع والموت والشتات، لا يحتاج إلى مشاهد تفجير دبابة بقدر ما يحتاج إلى من ينقذه من كارثة وجودية تتهدد مستقبله بأكمله.
إن مسؤولية القيادة ليست في التباهي بالمعارك، بل في إنهائها حين تتحول إلى مأساة مستمرة. والمقاومة ليست فقط في حمل السلاح، بل في القدرة على اتخاذ القرار الصعب حين يكون الثمن هو شعبٌ يُفنى، ومدنٌ تُمحى، وذاكرة تُغتال.