جاء قرار حركة “حماس” بالإفراج عن الجندي الأميركي-الإسرائيلي عيدان ألكسندر، في خطوة وُصفت بأنها “بادرة حسن نية” تجاه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، يفتح باباً واسعاً لتحليل التحولات السياسية العميقة التي تمر بها الحركة، في وقت تعاني فيه غزة من أسوأ كارثة إنسانية منذ عقود. هذه الخطوة لم تكن عفوية أو إنسانية بحتة، بل تعكس توجهاً استراتيجياً واضحاً لدى قيادة “حماس” لإعادة تموضعها في المشهد الدولي، وربما ضمان بقائها في حكم القطاع، لا من خلال المقاومة، بل عبر فتح قناة مباشرة مع واشنطن، العدو التقليدي الذي طالما شيطنته الحركة على مدار سنوات.
لعبة السياسة على حساب الدم
“حماس” تعرف جيداً أن استمرار الحرب بهذا الشكل، ومع حجم الدمار الذي لحق بالقطاع، قد يُفقدها شرعيتها حتى في أعين جزء من جمهورها الداخلي. لذلك، تسعى الحركة اليوم للظهور بمظهر “القوة العاقلة” التي تستطيع اتخاذ قرارات مرنة، تُرضي الأطراف الدولية، وتُقدّم نفسها كشريك ممكن في أي ترتيبات مستقبلية لما بعد الحرب.
الإفراج عن عيدان ألكسندر لم يكن فقط خطوة إنسانية أو نتيجة ضغوط عسكرية كما تدّعي إسرائيل، بل هو رسالة سياسية مشفّرة إلى واشنطن: “نحن جاهزون للتفاهم.. بشرط أن تبقونا في المعادلة”. هذه الرسالة وجدت طريقها بسرعة، حيث احتفى ترمب بالخطوة، وعبّر عن رضاه عنها، بل وشكر نتنياهو أيضاً، ما يدل على أن الإفراج لم يكن بعيداً عن تفاهمات ثلاثية جرت في الغرف المغلقة بين الأميركيين، والإسرائيليين، والوسطاء القطريين.
أميركا مفتاح الشرعية
الرهان على واشنطن، وإن كان يبدو خياراً مفاجئاً من قبل “حماس”، إلا أنه يعكس إدراكاً واقعياً أن الشرعية الدولية لا تُمنح إلا بموافقة أميركية، لا سيما في ظل فقدان الحلفاء الإقليميين التقليديين للحركة زخمهم أو حماسهم. تركيا مشغولة بملفاتها، وإيران تتعامل مع “حماس” الآن بأقل قدر من الحماس بسبب تعقيدات الوضع الإقليمي، أما العالم العربي، فهو غارق في التطبيع أو الصمت.
ومن هنا، جاء الإفراج عن الجندي الأميركي كبداية لفتح قنوات تفاوض “ناعمة”، تؤسس لتثبيت “حماس” كلاعب سياسي، لا فقط عسكري، في غزة. فالحركة لا تريد أن تخرج من هذه الحرب كمجرد مجموعة مقاومة ملاحقة، بل تبحث عن صفقة تحفظ لها مكاناً في الترتيبات الإقليمية المقبلة، حتى لو تطلب ذلك التقارب مع خصوم الأمس.
أين الشعب من هذه الحسابات؟
لكن في مقابل هذه الحسابات السياسية، تبقى المعادلة الأخلاقية مقلقة جداً. “حماس”، وهي تتحدث عن “بادرة حسن نية” وتفاوض على شروط التهدئة، تتجاهل أن غزة تحترق، وتنهار، وتتفسّخ اجتماعياً واقتصادياً. مئات آلاف النازحين، آلاف الشهداء، دمار شبه كامل للبنية التحتية، ومستقبل غامض لجيل كامل من الأطفال، وكل ذلك لم يُشكّل حتى الآن حافزاً حقيقياً للمراجعة أو التراجع عن الخطاب المتصلب.
ويبدو أن القيادة السياسية للحركة تفكر في البقاء أكثر مما تفكر في الإنقاذ. الإفراج عن رهينة واحد، حتى وإن كان خطوة إنسانية، لا يمكن فصله عن سياق سياسي يُظهر أن الحركة باتت مستعدة لتقديم “تنازلات رمزية” إذا ما ضمنت مكسباً سياسياً كبيراً، يتمثل في رفع العزلة الدولية عنها، أو إدخالها في ترتيبات ما بعد الحرب.
التطبيع السياسي مع واشنطن
إن السعي للتقارب مع الولايات المتحدة بوساطة قطرية ليس خطيئة في حد ذاته، فالسياسة هي فن الممكن. لكن الخطأ الفادح هو أن يتم كل ذلك بينما يُترك الشعب في غزة يواجه مصيره وحده، وسط مجازر يومية، وانهيار كامل للبيئة الإنسانية. حماس – كقوة حاكمة – تتحمل مسؤولية مزدوجة: تجاه المقاومة، وتجاه الناس الذين يعيشون تحت حكمها. وتبدو اليوم وكأنها تدير معركتها الخاصة من أجل البقاء، لا معركة شعبها من أجل الحياة.
ما فعلته “حماس” بالإفراج عن عيدان ألكسندر هو بداية تحوّل تكتيكي نحو التطبيع السياسي مع واشنطن، تمهيداً لتثبيت مكانتها في غزة ما بعد الحرب. لكن هذا التحوّل، رغم واقعيته السياسية، يبدو فاجعاً من ناحية إنسانية، إذ يأتي بينما تترنح غزة تحت نيران الحرب، دون أن تظهر القيادة أي أولويات واضحة لحماية المدنيين أو التخفيف من مأساتهم.