جاءت حادثة الهجوم على حافلة تقلّ عمّال إغاثة فلسطينيين تابعين لمؤسسة “غزة الإنسانية” لتضيف بعداً جديداً من التعقيد، وتسلّط الضوء على واقع التداخل السياسي والأمني الخطير الذي بات يهدد حتى الجهود الإغاثية. وبينما تدين المؤسسة، المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل، حركة حماس بالمسؤولية عن الهجوم، تتسع فجوة الثقة بين الطرفين، وتتكرّس حالة من الاتهام المتبادل التي تهدد ما تبقى من جهود لوقف إطلاق النار أو التوصل إلى هدنة إنسانية.
المساعدات الإنسانية ورقة ضغط
مؤسسة “غزة الإنسانية” التي بدأت عملياتها في ظل رفع جزئي للحصار الإسرائيلي مطلع مارس، وجدت نفسها في مرمى النيران—لا فقط من الناحية الأمنية، بل في قلب معركة سياسية معقّدة تُستخدم فيها المساعدات الإنسانية كورقة ضغط وصراع نفوذ. ورغم أن جميع من كانوا على متن الحافلة المستهدفة هم فلسطينيون يعملون في مجال الإغاثة، فإن ارتباط المؤسسة بإسرائيل وأميركا جعلها في نظر حركة حماس أداة اختراق ناعم ضمن معادلة الحرب، أكثر من كونها كياناً إنسانياً محايداً.
الهجوم، الذي أسفر عن مقتل خمسة عمّال على الأقل وإصابة آخرين، أثار استنكاراً واسعاً من المؤسسة، التي وصفت ما جرى بأنه “عمل متعمّد ووحشي”، وذكّرت بأن الضحايا هم آباء وأبناء ومجتمعون على هدف إنساني بحت. غير أن خلفيات الحادث تكشف عن صدام أكبر، إذ ترى حماس في هذه المؤسسة واجهة لسياسات إسرائيلية أميركية تهدف إلى الالتفاف على بنيتها الاجتماعية والسياسية، بل وربما تقويض سلطتها داخل القطاع.
حماس تتجاهل معاناة المدنيين
في المقابل، تبرّر حماس موقفها المتشدد تجاه أي جهة تنشط في غزة دون التنسيق معها باعتبارات “الأمن القومي”، لكنها في ذلك تتجاهل المعاناة اليومية للمدنيين وتضع العراقيل أمام جهود الإغاثة، ما يدفع العديد إلى التساؤل عن حدود مسؤوليتها الأخلاقية والسياسية. فالحركة التي تصرّ على شروط مسبقة لإنهاء الحرب، وتطالب بضمانات مكتوبة وشاملة تتجاوز الإطار الإنساني إلى السياسي والعسكري، تبدو أقرب إلى إدارة تفاوضية عسكرية لا تتعامل مع واقع الانهيار الإنساني بشفافية كافية.
هذا التعنت في الموقف التفاوضي يعزّز الانطباع بأن حماس باتت تضع مصالحها السياسية فوق الاعتبارات الإنسانية، خاصة في ضوء استمرار رفضها لأي مبادرة لا تضمن وقفاً كاملاً ودائماً للحرب، وانسحاباً شاملاً، وتبادلاً مشروطاً للأسرى. وهي بذلك تمنح إسرائيل مبرراً إضافياً لإطالة أمد الحرب، بل وتضع المجتمع الدولي في موقف حرج بين الرغبة في دعم صمود الفلسطينيين، والخوف من التورط في صراعات داخلية لا يمكن فصلها عن الاعتبارات الإقليمية والدولية الأوسع.
حماس في مأزق عميق
التصعيد اللفظي المتبادل بين حماس ومؤسسة “غزة الإنسانية” يعكس هذا التوتر العميق، الذي لم يعد يُدار فقط بالسلاح أو عبر طاولات التفاوض، بل أصبح يمتد إلى المنظومة الإغاثية التي يفترض أن تكون محمية بموجب القانون الدولي الإنساني. كما أن تزايد الهجمات ضد أطراف إنسانية يشكل تهديداً خطيراً لحياد العمل الإغاثي في مناطق النزاع، ويطرح تساؤلات عن مدى استعداد الأطراف المسلحة لاحترام خطوط الفصل بين الصراع العسكري والحياة المدنية.
في ظل هذا المشهد، يبدو أن وقف إطلاق النار يبتعد، لا بسبب فشل الوساطات فحسب، بل لأن أطراف النزاع لم تعد تُحسن التمييز بين ما هو تفاوضي وسياسي، وما هو إنساني وأخلاقي. وموقف حماس الأخير يعكس مأزقاً عميقاً في طريقة إدارتها للمرحلة، فبدلاً من تعزيز موقعها التفاوضي عبر الانفتاح على الجهود الإنسانية، تخوض معركة ضد من يحاولون -بحق أو بشبهة- تخفيف الكارثة، ما يضعها في موقع المعرقل أمام الرأي العام، حتى داخل أوساط مؤيديها.
تحول الكارثة إلى واقع دائم
ما لم تغيّر حماس من نهجها، وتقبل بالحد الأدنى من الترتيبات الإنسانية التي يمكن البناء عليها لمرحلة تفاوضية أوسع، فإنها تخاطر بفقدان المساندة الإقليمية والدولية، وتمنح خصومها أدوات جديدة لتصويرها كجهة تفتقر للمسؤولية وتُصرّ على عسكرة كل ما حولها، حتى المساعدات. وبينما تستمر المعاناة في غزة، يبقى الأمل معلقًا على تغيير في الحسابات، قبل أن تتحوّل كارثة إنسانية إلى واقع دائم.