وسط تعقيدات المشهد التفاوضي الجاري في العاصمة القطرية الدوحة، تتكشّف ملامح مأساة متواصلة يعانيها سكان قطاع غزة، في وقت لا تزال فيه حركة حماس تصر على مجموعة من الشروط الصلبة، التي وإن كانت تستند إلى مطالب وطنية مشروعة من حيث المبدأ، فإن توقيتها وتوظيفها السياسي يطرحان علامات استفهام كثيرة، خاصة في ظل تدهور الأوضاع الإنسانية على الأرض.
غزة ضحية المناورات السياسية
تتمسك حماس ببنود تتعلق بالانسحاب الإسرائيلي وفق خرائط دقيقة، وإدخال المساعدات الإنسانية وفق “البروتوكول الإنساني” الذي تم الاتفاق عليه في يناير الماضي، ورفض التعامل مع آلية توزيع المساعدات الحالية، وهي مطالب ذات طابع حقوقي وإنساني في ظاهرها، لكنها من الناحية العملية تتحول إلى أدوات تفاوضية جامدة، تؤدي إلى عرقلة التقدم في مسار الهدنة، وتُبقي الحرب مشتعلة في قطاع أنهكته شهور من القصف والتجويع والتشريد.
واقع الحال في غزة لا يحتمل رفاهية المناورات السياسية. مئات الآلاف من النازحين يعيشون في ظروف لا تصلح للعيش الآدمي، والمستشفيات بالكاد تعمل، فيما باتت المدارس ومراكز الإيواء أهدافاً محتملة للقصف. ومع ذلك، تصر حماس على أن تظل المفاوضات رهينة لبنود تقنية تفصيلية، دون أي مؤشرات على إبداء المرونة المطلوبة لتخفيف الكارثة الآنية، وكأن الحركة تحوّل كل جولة تفاوضية إلى معركة إثبات موقف سياسي، وليس لحظة لانتزاع الحد الأدنى من شروط البقاء لشعب محاصر.
حماس تعرقل المفاوضات
رفض حماس الانسحاب المرحلي غير المشروط، أو إدخال مساعدات وفق الآلية الدولية المطروحة حالياً، لا يبدو مقنعاً أمام جحيم الواقع الذي يعيشه المواطنون في غزة. والأخطر أن بعض الشروط المطروحة من الحركة، رغم وجاهتها، تبدو مصمّمة لفرض مواقف تفاوضية أكثر منها لتحقيق مصالح عاجلة للسكان. فالإصرار على صياغات قانونية دقيقة لكل بند، وعلى رفض “أي تلاعب” إسرائيلي في تفسير البنود، يعطي الانطباع بأن ما يهم الوفد هو ما بعد الهدنة، وليس إيقاف نزيف الدم اليومي.
الوفد الفلسطيني، وخاصة وفد حماس، يبدو متمسكاً بمعادلة تقول: إما هدنة بشروط سياسية كاملة، أو لا هدنة على الإطلاق. وهذه معادلة مدمّرة في ظل الفجوة الهائلة في موازين القوى على الأرض. في المقابل، تظهر إسرائيل سلوكاً تفاوضياً متذبذباً، لكنها تعلن استعداداً لقبول بعض التنازلات، مثل إدخال 500 شاحنة مساعدات يومياً، أو حتى الانسحاب من محور موراغ، وهو ما كان مرفوضاً تماماً من قبل رئيس الوزراء نتنياهو في السابق. ومع ذلك، لا تقابل هذه المرونة بمرونة فلسطينية موازية، ما يعطي إسرائيل الفرصة لتصوير حماس أمام المجتمع الدولي كطرف معرقل وغير واقعي.
ورغم كل ما يُقال عن انتظار الضغط الأميركي على إسرائيل، فإن استمرار التعويل على تحركات خارجية لا يبدو كافياً لتبرير الإطالة المتعمدة للمفاوضات، خاصة وأن واشنطن، بحسب تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب، تبدي اهتماماً بتحقيق هدنة قريبة، الأمر الذي يجعل الكرة في ملعب الطرف الفلسطيني أكثر من أي وقت مضى.
الحركة لا تفكر في المدنيين
وفي خضم هذه المواقف، يعاني الفلسطيني العادي في غزة، الذي بات يشكك في جدوى كل هذه المفاوضات، وفي صدق النوايا التي تحكمها. فبينما تتراكم الجثث تحت الأنقاض، وتزداد صفوف الجوعى على أبواب المراكز الإغاثية، ينشغل قادة حماس بتدقيق الخرائط وصياغة النصوص، متناسين أن الإنسان لا يُطعم بالخرائط ولا تُضمّد جراحه بالبنود القانونية.
إن على حماس أن تتحلى بقدر أكبر من المسؤولية، وأن تخرج من دوامة “الكسب السياسي” إلى منطق الضرورة الإنسانية. فالمعركة لم تعد على طاولة المفاوضات وحدها، بل في شوارع غزة المحطمة، حيث يختنق الناس تحت الركام، في انتظار أن يضع قادتهم مصالحهم جانباً، ولو مؤقتاً، لإنقاذ ما تبقى من حياة في هذا القطاع المنكوب.