تشهد السلطة الفلسطينية واحدة من أخطر أزماتها المالية منذ تأسيسها. أزمة تتجاوز كونها عجزًا في الميزانية أو تأخرًا في الرواتب، لتلامس صميم البقاء السياسي والإداري للسلطة ذاتها. فالمال شريان السياسة، وفي حالة السلطة الفلسطينية، فإن انقطاعه قد يعني انهيارًا مؤسساتيًا يصعب احتواؤه.
خلال الأشهر الأخيرة، تعالت تحذيرات متواترة من مسؤولين فلسطينيين ومؤسسات دولية من أن السلطة لم تعد تملك سوى ما يكفي لتغطية نفقاتها التشغيلية الأساسية، ومع ذلك، لا تفي بالتزاماتها المالية تجاه الموظفين، والخدمات، والبنية التحتية التي تعاني أصلاً من التآكل. هذه الأزمة لم تأتِ فجأة، بل هي نتيجة تراكمات، بعضها داخلي يتعلق بالاعتماد الكبير على الدعم الخارجي، والبعض الآخر سياسي، إذ تراجعت مكانة القضية الفلسطينية على أجندة الأولويات العربية والدولية.
المثير في المشهد هو الصمت العربي. لطالما شكلت الدول العربية العمق الاستراتيجي والمالي للسلطة الفلسطينية، وقد تم الاتفاق في قمم سابقة على إنشاء “شبكة أمان مالية عربية” لدعم السلطة في أوقات الشدة، خاصة حين تحتجز إسرائيل أموال المقاصة – وهي الضرائب التي تجبيها نيابة عن الفلسطينيين. لكن، هذه الشبكة، وعلى الرغم من التصريحات المتكررة، بقيت حبراً على ورق. الدعم المالي العربي تقلّص تدريجيًا، حتى بلغ حد التلاشي، دون تفسير رسمي مقنع.
المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، التي كانت من أكبر المانحين للسلطة، لم تقدم أي مساهمة مالية منذ أكثر من عام، رغم تعهداتها السابقة. الإمارات خفضت دعمها أيضًا، ومصر والأردن تكتفيان بالدعم السياسي والتنسيق الأمني، في حين أن الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، والذي كان أداة مالية فعالة في دعم مشاريع السلطة، يشهد بدوره تراجعًا في نشاطه بسبب الضغوط السياسية والتغيرات الإقليمية.
الوضع تفاقم بشكل حاد بعد العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، والذي رفع من فاتورة الإنفاق الإنساني والطبي، وفرض على السلطة تحديات جديدة في ظل وضع اقتصادي شبه منهار. ومع احتجاز إسرائيل ملايين الدولارات من أموال المقاصة بذريعة أن جزءًا منها يُحوّل لعائلات الشهداء والأسرى، باتت السيولة شحيحة لدرجة تهدد بدفع السلطة إلى العجز التام عن العمل.
الرئيس محمود عباس نفسه وجه نداءات مباشرة خلال القمم العربية، محذرًا من انهيار مالي وشيك، وداعيًا إلى تفعيل الدعم العربي “غير المشروط”. لكن الردود، إن وجدت، كانت خجولة وغير مؤثرة. وفي الوقت الذي تنشغل فيه العواصم العربية الكبرى بملفاتها الداخلية وصراعاتها الإقليمية، تنزلق السلطة الفلسطينية إلى وضع يشبه السقوط الحر.
البنك الدولي أصدر تقارير متتالية يحذر فيها من “انهيار مالي محتمل” إذا استمر التراجع في الدعم الخارجي واحتجاز أموال المقاصة. الأرقام قاتمة: الدعم الخارجي للميزانية الفلسطينية تراجع من 30% في سنوات ما قبل 2017، إلى أقل من 1% في 2024. هذا الانخفاض الكبير ترك فجوة لم تستطع الإيرادات المحلية ولا القروض سدها.
ما يفاقم الوضع هو عدم وجود خطة بديلة. فالسلطة، التي أُنشئت كجسر إلى الدولة، لم تُبنَ لتكون مكتفية ذاتيًا اقتصاديًا، بل ظلت تعتمد على المانحين والدعم الخارجي كعنصر رئيس في بقائها. ومع غياب الدعم العربي، تصبح أكثر هشاشة من أي وقت مضى.
الأزمة لم تعد فقط مسألة مالية، بل أصبحت أزمة ثقة. ثقة الشعب الفلسطيني في قيادته، وثقة القيادة الفلسطينية في التزامات الأشقاء. وفي غياب المال، تتآكل أدوات الحكم، وتنهار شبكات الأمان الاجتماعية، ويزداد الاحتقان الداخلي، وكل ذلك في ظل واقع سياسي غير محسوم، وانقسام فلسطيني لا يزال يعمّق الجرح.
ختامًا، لا يبدو أن هناك حلًا سريعًا في الأفق. الدعم العربي لم يعد يُمنح كما في السابق، وتغيرت أولويات المنطقة. لكن، إذا استمر هذا التجاهل، فإن المشهد الفلسطيني برمته – لا السلطة فقط – سيكون عرضة للاهتزاز وربما الانهيار. فهل نرى تحركًا جادًا، أم أن السلطة ستُترك لتواجه مصيرها في صمت عربي مريب؟