تعيش إسرائيل منذ بدء عمليتها البرية في قطاع غزة بتاريخ 27 أكتوبر 2023، واحدة من أكثر المراحل تعقيداً في تاريخها العسكري الحديث، ليس فقط بسبب حجم العمليات أو امتدادها الزمني، بل بسبب الخسائر غير المسبوقة التي تتعرض لها قواتها، والتي تجاوزت حتى الآن 424 جندياً، بحسب آخر بيان رسمي من الجيش الإسرائيلي. هذه الخسائر لم تعد مجرد أرقام تُسجّل في نشرات إخبارية، بل أصبحت تمثل ضغطاً نفسياً ومجتمعياً متزايداً داخل إسرائيل، وتعيد تسليط الضوء على الثمن الباهظ الذي يدفعه الجنود وعائلاتهم، وعلى الانقسامات العميقة داخل المجتمع الإسرائيلي تجاه استمرار الحرب.
الخسائر العسكرية: أرقام تتحدث
مع تصاعد وتيرة القتال، خاصة في مناطق مثل جباليا وشمال غزة، أصبح من الواضح أن المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها كتائب القسام، قادرة على تنفيذ عمليات نوعية ضد القوات الإسرائيلية حتى من مسافة الصفر. هذه المواجهات المباشرة تُظهر تغيراً واضحاً في تكتيك القتال، حيث لم يعد جيش الاحتلال يتمتع بتلك الهيمنة الكاملة على الأرض، بل أصبح عرضة لكمائن وهجمات مباغتة داخل بيئة حضرية معقدة تشبه “فخاخ النار”.
مقتل الجنود الثلاثة في جباليا ما هو إلا نموذج لواقع أكثر اتساعاً، حيث لم يعد الحديث فقط عن خسائر مادية أو عسكرية، بل عن تآكل متزايد في معنويات الجنود. الجندي الإسرائيلي اليوم يخوض معركة معقدة، ليس فقط ضد مقاتلي حماس، بل ضد الخوف المستمر من عدم العودة حيًّا، في ظل حرب استنزاف لا يبدو أن لها نهاية قريبة.
التأثير على الجنود: صدمة نفسية وتراجع في الجهوزية
بحسب تقارير من داخل إسرائيل، فإن عدداً كبيراً من الجنود يعاني من أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، والعديد منهم تم إعادتهم من الجبهة لأسباب نفسية أو طبية. هذا النوع من الحروب، الذي يتميز بقتال شوارع متقارب، يترك أثراً عميقاً على الجنود الذين اعتادوا على التفوق التكنولوجي والجوي. المشهد مختلف اليوم: جنود يدخلون أزقة مدمّرة، لا يعرفون من أين ستأتي الضربة، وأي منزل قد يكون ملغماً أو مليئاً بالمقاتلين.
تأثير ذلك على الرأي العام الإسرائيلي
الرأي العام في إسرائيل يشهد حالة من التذبذب والانقسام. فبينما يصرّ البعض على ضرورة “القضاء على حماس مهما كان الثمن”، تزداد أصوات المعترضين، خاصة مع كل إعلان عن مقتل جنود جدد. عائلات الجنود بدأت تطرح أسئلة صعبة: إلى متى؟ لماذا لم يتم تحقيق الأهداف بعد مرور أكثر من 7 أشهر؟ وما الذي يُبرر هذا الكم من الخسائر البشرية؟
وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي كانت في بداية الحرب متحمسة، بدأت تُخفف من نبرتها، وتفتح المجال لنقاشات حقيقية حول مستقبل العملية ومدى فعاليتها. هناك شعور عام بالاستنزاف، والقلق يتصاعد مع ارتفاع أعداد القتلى، وظهور دلائل على أن المقاومة ما زالت قادرة على الصمود بل والرد بقوة.
ضغط سياسي ونفسي
يمكن القول إن خسائر الجيش الإسرائيلي في غزة لم تعد مجرد نتائج ميدانية، بل تحولت إلى عامل ضغط سياسي ونفسي داخلي. كل جندي يُقتل يترك وراءه أثراً في الرأي العام، ويزيد من الشكوك حول نجاعة العملية وجدواها. وبقدر ما تمثل هذه الخسائر ضربة عسكرية، فإنها أيضاً تهدد بانفجار داخلي سياسي واجتماعي قد يُغير شكل النقاش حول مستقبل الحرب على غزة.