في وقتٍ تجاوزت فيه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عامًا ونصف من الدمار وسفك الدماء، عادت آلة الحرب مجددًا للدوران بعد هدنة مؤقتة لم تدم طويلًا. استأنفت إسرائيل عملياتها العسكرية الأسبوع الماضي، مركّزة ضرباتها على ما تبقى من معاقل حماس في الجنوب، وتحديدًا في مدينة رفح، في وقت بدأت فيه تتضح ملامح خطة إسرائيلية تهدف إلى تقسيم القطاع إلى ثلاث مناطق منفصلة، تمهيدًا لفرض وقائع سياسية جديدة تتجاوز حكم حركة حماس، وتفتح الباب أمام نموذج “حكم شعبي محلي” بديل.
خطة التقسيم: مناطق عازلة وحكم محلي مؤقت
وفقًا لتقارير إعلامية وتصريحات غير رسمية لمسؤولين إسرائيليين، تدرس تل أبيب فرض وقائع جديدة في القطاع عبر تقسيمه إلى ثلاث مناطق جغرافية منفصلة: شمال القطاع، المنطقة الوسطى، وجنوبه، مع الإبقاء على ممرات عسكرية تربط المناطق ببعضها تحت السيطرة الإسرائيلية.
ويُعتقد أن الهدف النهائي من هذه الخطة هو تمهيد الأرضية لظهور “حكم محلي شعبي” مكوّن من وجهاء عشائر وشخصيات مدنية غير منتمية لحماس، لتولي شؤون الإدارة المدنية، في ظل رفض إسرائيلي قاطع لإعادة السلطة الفلسطينية إلى القطاع في صورته الحالية.
التوغل في رفح ومحور موراج: ترسيم ميداني لتقسيم دائم؟
يشير التوغل البري الإسرائيلي العنيف في مدينة رفح، وإخلاؤها التام تقريبًا من سكانها، إلى أن الهدف الميداني يتجاوز حدود “تصفية جيوب المقاومة” كما تروّج الرواية الإسرائيلية الرسمية. فالمؤشرات على الأرض توحي بأن إسرائيل بصدد تنفيذ الشق العملي من خطة التقسيم عبر التمركز في منطقة محور موراج، التي تقع جغرافيًا بين رفح وخان يونس، وتاريخيًا شكّلت إحدى المستوطنات الإسرائيلية قبل الانسحاب من غزة عام 2005.
تحويل هذا المحور إلى “منطقة أمنية عازلة” يعني فعليًا شطر القطاع إلى جزأين، مع بقاء منطقة الشمال تحت إدارة عسكرية مباشرة أو عبر أطراف فلسطينية محلّية موالية، فيما تُخضع المنطقة الجنوبية لترتيبات مغايرة قد تشمل وجودًا أمنيًا إسرائيليًا طويل الأمد أو تسوية مرحلية مع أطراف إقليمية.
أما رفح، التي تُعدّ آخر مدن غزة ارتباطًا بالعالم الخارجي عبر معبرها الحدودي مع مصر، فإن تفريغها من سكانها بالكامل لا يمكن قراءته إلا في سياق سعيٍ إسرائيلي لتأمين الشريط الحدودي وتحويله إلى منطقة “صفر سكان”، مما يسهّل المراقبة، ويمنع أي شكل من أشكال التواصل العسكري أو اللوجستي مع الخارج.
هذه التحركات تثير مخاوف متزايدة في القاهرة، إذ أن أي تغيير في الوضع الأمني أو الديموغرافي في رفح يُعدّ تهديدًا مباشرًا للسيادة المصرية، خاصة في حال تعارضت الخريطة الجديدة مع التفاهمات الأمنية المبرمة في إطار معاهدة السلام. كما أن إغلاق المجال أمام الفلسطينيين في رفح يعيد إلى الواجهة سيناريوهات ضاغطة على مصر، من قبيل “الحل الإنساني عبر سيناء”، وهو ما ترفضه القاهرة رسميًا وتعتبره خطًا أحمر.
رفح: خط النار الذي يختبر صبر القاهرة
في الجنوب، تتركز أنظار المجتمع الدولي على مدينة رفح، آخر معاقل حماس الميدانية، والتي شهدت مؤخرًا تصعيدًا ميدانيًا مع توغل قوات الاحتلال باتجاه محور صلاح الدين الحدودي، والمعروف باسم “محور فيلادلفي”، والذي يفصل بين غزة ومصر.
السيطرة على هذا المحور تعني عمليًا عزل قطاع غزة بشكل كامل عن العالم الخارجي باستثناء المعابر الإسرائيلية، وهو ما يثير تساؤلات خطيرة حول مستقبل العلاقة بين إسرائيل ومصر، لاسيما أن الأخيرة باتت منذ سنوات تدير المعبر الوحيد الذي لا تسيطر عليه إسرائيل، وهو معبر رفح.
معاهدة السلام في الميزان؟
حتى الآن، لم تصدر القاهرة ردودًا حادة بشأن التطورات الميدانية في رفح، لكنها أعربت مرارًا عن رفضها لأي تغيير في الوضع القائم على الحدود. ومع ذلك، فإن توسيع رقعة العمليات الإسرائيلية باتجاه المناطق المحاذية للأراضي المصرية قد يشكل اختبارًا حقيقيًا لمعاهدة السلام بين البلدين، التي أُبرمت عام 1979.
وتخشى دوائر صنع القرار في مصر من أن يؤدي أي تصعيد مباشر أو مساس بالسيادة المصرية إلى موجة ضغط شعبي، وإعادة فتح ملفات كانت تُعتبر مغلقة، مما قد يضع العلاقات الثنائية أمام مفترق طرق حرج.
هل تعيد إسرائيل هندسة غزة؟
في ضوء هذه التطورات، يبدو أن إسرائيل ماضية في مسعى لتفكيك البنية السياسية والعسكرية لحماس، بالتوازي مع خلق نظام بديل على الأرض يكرس واقعًا جديدًا تتجاوز فيه الحركات الإسلامية وتعيد ضبط المشهد الفلسطيني وفق شروط أمنية إسرائيلية بحتة.
لكن هذه الحسابات قد تصطدم بجدار الصراع الإقليمي، خصوصًا مع دخول معادلة مصر كطرف متأثر – وربما لاحقًا، فاعل – في هذه الخطة، وهو ما يجعل مستقبل غزة، بل والمنطقة بأسرها، مفتوحًا على كافة الاحتمالات.